غزة: أربعة أسباب وراء عدم إبلاغ النساء عن العنف

غزة: أربعة أسباب وراء عدم إبلاغ النساء عن العنف

وسط الخيام الممتدة على طول ساحل محافظة خانيونس جنوب قطاع غزو، حيث الرمال تبتلع الأصوات والأمل، تجلس مرام (اسم مستعار) في زاوية خيمتها المتهالكة. تمسك بيد ابنتها الصغيرة التي ترتجف من البرد، بينما تحاول إخفاء دموعها عن الطفلات الثلاث اللواتي أصبحن كل ما تبقى من عالمها. 

مرام، مثل آلاف النساء في غزة، تعرضت للعنف مرارًا، لكنها تختار الصمت، تقول بصوت مكتوم: "الصمت قد يقتلني، لكن الكلام قد يقتلنا جميعًا". 

هذه ليست قصة مرام وحدها، فوفقًا لتقرير حديث صادر عن وزارة شؤون المرأة الفلسطينية، فإن 46.5 % من الناجيات من العنف في غزة يلتزمن الصمت، رغم أن 93.8% منهن تعرضن لشكل واحد على الأقل من العنف خلال الحرب التي استمرت لأكثر من عامين. هذا الصمت ليس اختيارًا، بل هو نتيجة أربعة جدران خفية تُحيط بهن، يأتي في مقدمتها جدار الحفاظ على الأسرة. 

"أخشى أن أتحدث فينهار آخر ما تبقى من أسرتي"، تقول مرام وهي تروي كيف أن زوجها السابق تخلّى عن مسؤولياته تجاه بناتها، مما جعل العائلة الصغيرة كيانًا هشًا يعتمد على تماسكها للبقاء. في مجتمع تحطمت فيه المفاهيم التقليدية للأمان خصوصا في ظل الحرب وانعدام كافة أدوات الحماية، أصبحت الأسرة هي الملاذ الوحيد، حتى لو كانت قفصًا من الصمت.

يوضح التقرير أن 77.5 % من الناجيات يخشين أن يؤدي الإبلاغ إلى تفكك الأسرة، خاصة في ظل ظروف النزوح التي تهدد بتبديد آخر روابط الأمان الاجتماعي.

في مجتمع الذي يعاني من ويلات الصراع لا يزال ينظر إلى الضحية أحيانًا باعتبارها "عيبًا"، تتحول المعاناة إلى عبء مزدوج. فتلك سلام (اسم مستعار)، أم لخمسة أطفال وزوجها معتقل، تروي كيف أن نظرات المجتمع تحولها من "ناجية" إلى "وصمة". تقول: "حتى عندما أطلب المساعدة، أشعر أنني أتعرض للمحاكمة مرتين: مرة من الجاني، ومرة من المجتمع".

هذا الخوف من الوصم وهو السبب الثاني وراء عدم إبلاغ 37.2 % من الناجيات لتحمل العنف في صمت، خوفًا من أن يتحولن إلى غرباء في مجتمعهن.

تقول سلام: "إذا شكوت، قد أدفع الثمن غاليًا"، هكذا تصف شعورها بالعجز تجاه الجناة، خاصة عندما يكونون من داخل الأسرة أو مقدمي الخدمات. التقرير يكشف 39.9% من الناجيات يخشين أن يؤدي الإبلاغ إلى زيادة العقاب أو السيطرة من المعتدي.

من هنا يتبين أنه في بيئة تفتقر إلى الحماية المؤسسية، حيث انهارت أنظمة العدالة والرقابة بفعل الحرب وتدمير كافة المؤسسات الرسمية وغالبية المؤسسات الأهلية ذات العلاقة، يصبح الصمت فرصة للبقاء.

تعترف مرام (25 عامًا) أنها لا تعرف إلى أين تتجه حتى تبلغ عن العنف الذي تتعرض له داخل الأسرة. وقالت "لا أعرف إلى من أتجه، ولا كيف أطلب المساعدة".

وأوضحت مرام أنها حاولت مرة اللجوء إلى إحدى المؤسسات، لكنها وجدت أبوابًا مغلقة وأذانًا صماء، حيث لم تستطع البوح وخشيت من أن يتسبب لها الإفصاح عما تتعرض له بمزيد من العنف.

مرام ليست وحدها التي لا تعرف كيف تبلغ عن العنف، وطبقا لما ورد في التقرير فإن 37.2% من الناجيات لا يعرفن كيفية الإبلاغ أو إلى من يتجهن، في ظل انهيار الخدمات وعدم وضوح مسارات الدعم.

ومن الواضح، أن هذه النسب ليست مجرد أرقام، بل هي انعكاس لواقع مرير تعيشه النساء في غزة. فبينما تُظهر البيانات أن 97% من النازحات فقدن الخصوصية بشكل كامل، و94% يعشن في أماكن غير ملائمة، يصبح العنف جزءًا من الحياة اليومية، والصمت وسيلة للتعايش معه.

التقرير يشير أيضًا إلى أنّ %8.3 من النساء فكرن في الانتحار نتيجة الضغط النفسي، بينما تعاني %70.4 من العزلة الاجتماعية. هذه الأرقام ترسم صورة لجيل كامل من النساء يحملن جروحًا غائرة وغير مرئية.

تحاول سلام ومرام وغيرهما من النساء خلق مساحات صغيرة للأمان داخل الخيام. يتبادلن النصائح عبر مجموعات واتساب سرية، ويحاولن حماية بعضهن البعض. لكن هذه الجهود تبقى غير كافية في مواجهة نظام عنف ممنهج.

كما تقول سلام: "نحن لا نريد الشفقة، بل نريد مسارات آمنة للإبلاغ، ودعمًا نفسيًا يصل إلينا، ومجتمعًا يفهم أن الصمت ليس خيارًا، بل هو صرخة لم يسمعها أحد بعد".