في زاوية من خيمة مكتظة شمال غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، يجلس محمد (12 عامًا) وأخته الصغرى هدى (8 أعوام) برفقة جدَّيْهما وأخوالهما. لم يتبقَّ للطفلين سوى بعض الذكريات الباهتة عن والدهما ووالدتهما، اللذين اختفيا تحت الأنقاض في غارة استهدفت منزلهما في مدينة غزة قبل أشهر.
يقول محمد بصوت خافت: "أبي وأمي كانا يُحبّانني كثيراً، كنت ألعب الكرة مع أبي، وكانت أمي تعد لي الطعام المفضل". الآن، يعتمد الأخوانِ على الجدة في الحصول على وجبتي طعام يومياً، وينامان على أرضية الخيمة الباردة.
تمثل قصة محمد وهدى وجهًا من وجوه مأساة إنسانية متسارعة في قطاع غزة، حيث خلقت الحرب التي اندّلعت في أكتوبر 2023 جيلاً جديدًا من الأيتام، في ظلّ ظروف وصفتها الأمم المتحدة بأنّها "الأكثر قسوة في العالم".
ووفقًا لتقديرات وزارة التنمية الاجتماعية في غزة ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فإن عدد الأطفال الذين فقدوا أحد والديهم أو كليهما تجاوز 19 ألفًا، بينهم أكثر من 3 آلاف طفل فقدوا كلا الوالدين، وفقًا لتقرير لمؤسسة "أنقذوا الأطفال".
بينما تشير التقديرات المحلية إلى أن عدد الأطفال الأيتام بلغ قبل السابع من أكتوبر 25 ألفاً، فيما يتجاوز الآن 40 ألف يتيم. يترافق هذا العدد الكبير مع نظام رعاية منهك.
قالت أماني عبد الرحمن (*)، موظفة في منظمة محلية للإغاثة: "النظام انهار بالكامل. الجمعيات التي كانت ترعى الأطفال دمرت، والعائلات التي قد تستضيفهم تعاني هي نفسها من النزوح والجوع".
وتضيف عبد الرحمن: "نحاول تقديم المساعدة، لكن الاحتياجات هائلة. الأطفال لا يحتاجون فقط إلى الطعام والمأوى، بل إلى الدعم النفسي، وكثيرون منهم يعانون من صدمات نفسية حادة".
وحتى على الصعيد التعليمي، فقد توقف التعليم بشكل شبه كامل، مما يهدد مستقبل جيل كامل من الأطفال الأيتام.
ويزداد واقع الأيتام في قطاع غزة قتامة مع زيادة مطردة في نسبتهم نتيجة استمرار الحرب على القطاع. عدا عن وجود حالة من الاستغلال في عملية توصيل كفالات الأيتام إلى مستحقيها.
تكشف السيدة سامية خليل (33 عامًا)، والتي ترملت منذ عام ونصف تقريبًا، أنها تتلقى كفالة نقدية تخص طفلها ذي الثمانية أعوام، بشكل غير منتظم، وأن القيمة التي تحصل عليها 150 دولاراً، فيما تبلغ نسبة استقطاع الوسيط 50 دولاراً.
وتقول السيدة خليل (*): "قيمة الاستقطاع مبالغ فيها، وتمثل هذه القيمة 25% من المبلغ. لكنني لا أَمْلِكُ ترف الاعتراض أمام حاجة طفلي وأسرتي عمومًا".
كما لا تجد هذه السيدة منفذًا واضحًا لتقديم الشكاوى حول حالة الاستغلال القائمة، مُطَالِبَةً بضرورة وجود عناوين محددة لكفالة الأيتام معروفة وتتسم بالشفافية والنزاهة.
وتواجه النساء الأرامل المعيلات للأطفال الأيتام تحديات كبيرة، في ظل فقدان المعيل، وانعدام فرص العمل، مع غلاء غير مسبوق في أسعار السلع الأساسية -بما في ذلك الطعام والشراب والملابس والأغطية، لاسيما مع طقس الشتاء البارد-.
أمام هذا الاحتياج الكبير لأسر الأيتام، قالت ريم مسروجي، مديرة جمعية إنعاش الأسرة: "المسؤولية المجتمعية والتكافل هي سمة من سمات الشعب الفلسطيني، ولابد من تظافر الجهود من أجل توفير حياة كريمة للأيتام".
وقالت مسروجي عبر حوار بودكاست "من المنصة إلى الشارع": "للأسف هناك خسارة للثقة في بعض المؤسسات التي ترعى الأيتام، والبعض الآخر حافظ على الثقة بين الكفلاء والمتبرعين وكذلك المستفيدين، لكن هذا لا يمنع أن نلتزم بالمسؤولية المجتمعية".
ووجهت دعوة عامة للأفراد وخاصة للشركات بأن تخصص جزءاً من مسؤوليتها المجتمعية إلى برنامج كفالة الأيتام. وقالت: "غالبية الشركات تتبرع كل منها بطريقتها، لكن هذا لا يمنع أن يكون هناك برنامج مخصص بشكل شهري، ولو كل شركة قامت بكفالة عشرة أطفال فهذا سيسهم بشكل كبير في تحسين حياة هؤلاء الأطفال".
ولأجل الحفاظ على الشفافية في وصول كفالات الأيتام إلى مستحقيها، أوضحت مسروجي: "نحن نعمل دراسة حالة لكل طفل، ونحدد الاحتياجات، وتصل الأموال من خلال النظام البنكي، وهذه الشفافية في مرحلة تلقي الكفالة وتحويلها إلى المستفيد منها عبر البنك تؤكد المصداقية".
وذكرت مديرة إنعاش الأسرة، التي تأسست قبل ستة عقود، أنهم تمكنوا من تأمين كفالة 1500 طفل يتيم من قطاع غزة، ويطمحون للوصول إلى أكثر من 5000 طفل.
وفي سياق المسؤولية المجتمعية والتكافل، قالت مسروجي إن التكافل الاجتماعي في دعم الأيتام يتوجب أن يقوم الجميع بدوره، وليس هناك ما يمنع أن يساهم الأفراد في هذه الجهود عبر التخلي عن بعض العادات اليومية لصالح شريحة واسعة من الأطفال بحاجة إلى الحماية.
وأضافت: "المسؤولية لا تقع على عاتق مانح أو مؤسسة وإنما على كل فلسطيني. أقول لكل شخص يتساءل: ماذا أستطيع أن أفعل؟ كل واحد فينا قادر على أن يساهم بما يستطيع. كل شخص فينا يذهب يوميًا لمقهى يشرب قهوة النرجيلة، ويمارس حياته اليومية. لنغير قليلاً في نمط حياتنا العادية من أجل أهلنا في غزة".
وأشارت إلى أن برنامج كفالة الأيتام يقدم طريقتين للتبرع: إما تبرع لمرة واحدة بأي مبلغ، أو كفالة شهرية بقيمة 100 دولار. في حالة الكفالة الشهرية، يحصل الكفيل على معلومات كاملة عن الطفل ويمكنه متابعة تَطَوُّرِهِ وإرسال رسائل له.
وبينت أنه تم تنظيم آليات التحويل البنكي وتوثيق عملية المساعدة من أجل إزالة مخاوف الناس من وصول التبرعات إلى مستحقيها في ظل صعوبات التحويلات المالية.
وختمت بالتشديد على ضرورة وضع رؤية مشتركة لمساعدة الأطفال في غزة، من خلال التكامل بين الخدمات النفسية والتعليمية والاجتماعية لضمان وصول الأطفال إلى بر الأمان.
(*) اسم مستعار


