بهمسٍ وحَذَرٍ شديدٍ، تُعْرِض النازحة من شمال قطاع غزة جمانة عبد الله (*) ذراعها داخل خيمة لتُظهِر آثار حروق خلَّفت ندوبًا عميقة. ندوب تشبه إلى حد كبير ما تخلِّفه آثار القصف الذي نجا منه جسدها بأعجوبة، لكنها ندوب غلاية حليب ألقاها والدها عليها.
تقول جمانة بلهجة لا مكان فيها للشفقة، فقط إصرار على البقاء: "العدوان أخذ بيتي وأخي، وأبي يساعدهم يكملوا عليَّ (..) قبل الحرب، كنت أعرف أن هناك مكانًا اسمه 'بيت الأمان' يمكنني اللجوء إليه. اليوم، حتى هذا الأمل لم يعد موجودًا".
جمانة ليست الحالة الوحيدة التي تواجه العنف تحت ستار الخيام في غزة التي حوَّلتها الحرب إلى كتلة دمار مادي ومعنوي أيضًا. وبينما تطحن آلة الحرب الإنسان، تتحول البيوت – أو ما تبقى منها – والخيام إلى ساحات معركة ثانية أمام النساء.
تشير خمس من أصل عشر نساء قابلتهنَّ في سياق إعداد هذه القصة الاستقصائية، إلى أنهنَّ يعشن حربًا داخل الحرب، حيث يواجهن فيها عنفًا مضاعفًا: قنابل تهدد من السماء، وعنف ينهش من الداخل، في ظل غياب تام لشبكات الأمان الرسمية والأهلية التي دمرتها الحرب.
وعلى الرغم من أن النساء اللواتي قابلتهن مراسلة "آخر قصة" قررن كسر جدار الصمت، إلا أنهن فضلن عدم ذكر أسمائهن حفاظًا على حياتهن، فالنساء في وسط مجتمع محافظ يعيش نزاعًا عسكريًا امتد لأكثر من 24 شهرًا، قد يصبحن الحائط الأقصر للقفز عن كبت الحرب وآثارها النفسية.
وتتعاظم المأساة في نظر النساء المُعنَّفات أن الجراح الأكثر ألمًا في هذه البيئة، تتركها أيادٍ يفترض أنها تحمي، في وقت أصبحت فيه طرق النجاة مسدودة، خصوصًا مع غياب كامل للحماية المؤسساتية.
تبدأ الحكاية مع رولا محمد، الطفلة التي لم تترك لها الحرب طفولة لتخسرها. كانت مسؤولة عن إخوتها قبل الحرب، لكن شبح العنف كان مختلفًا. "قبل العدوان ما كنتش زي هيك، ما كانش العنف هادا"، كلماتها تفتح نافذة على واقع مرير حيث يتحول الأب من مُعِيل إلى مُعتَدٍ.
محاولات والدها المستميتة لتزويجها من رجل يكبرها بعقود، كانت محاولة أخيرة للتخلص من "المشكلة". وعندما لجأت رولا أخيرًا إلى الطبيبة بعد حرقها، وتدخَّل مركز الأبحاث والاستشارات القانونية للمرأة(منظمة محلية)، وجدت بعضًا من السلامة. لكن هذا النموذج الناجح أصبح اليوم استثناءً نادرًا.
ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2023)، فإن حوالي 30% من النساء المتزوجات أو اللواتي سبق لهن الزواج في قطاع غزة تعرضن لعنف جسدي أو جنسي من قبل أزواجهن مرة واحدة على الأقل. هذه الأرقام، التي جُمِعت قبل الحرب الأخيرة، كانت تجد ردًا مؤسسيًا، ولو محدودًا.
فقد أظهر استطلاع رأي في تحقيق سابق أجرته "آخر قصة" - أبريل 2023 - أن 532 سيدة لجأن إلى "بيت الأمان" التابع لوزارة التنمية الاجتماعية في عام 2022 وحده، وهو البيت الحكومي الرسمي الوحيد من نوعه آنذاك. كما كان هناك مراكز للمجتمع المدني مثل مركز "حياة" الذي يقدم الدعم للناجيات من العنف. اليوم، لم يعد لهذه المراكز وجود فعلي؛ فبيت الأمان ومركز حياة وغيرهما إما دُمِّرا بالكامل في القصف أو أُغلقا بسبب استحالة العمل في ظل الظروف الأمنية الكارثية واستهداف البنى التحتية. لذا فقدت النساء الملاذ الأخير.
وإذا كانت أكثر من خمسمائة سيدة لجأن للبحث عن الحماية قبل الحرب، فكم عدد اللواتي كُنَّ سيطلبن الحماية في 2024-2025 لو كان بيت الأمان موجودًا؟ تقديرات أولية، بناءً على تصاعُد وتيرة العنف وانهيار آليات التكيف المجتمعي، تشير إلى أن العدد قد يتضاعف خمس مرات على الأقل، ليصل إلى آلاف النساء المحاصرات مع مُعنِّفيهن دون ملاذ.
ولو افترضنا أنّ المحرك الأساسي وراء العنف آنذاك كان لدواعٍ مختلفة أبرزها الأوضاع الاقتصادية، فكيف إذا اجتمع الانهيار الاقتصادي مع الحرب والجوع والفقد والصدمات النفسية؟ هذا يعني أن نسب المُعنَّفات تحت ظلال الحرب كانت أكبر بكثير، لكن صوت القصف كان أعلى من أصوات أولئك النساء.
ولطالما كان العنف الاقتصادي يعني قبل الحرب، حجب النفقة، فإنه اليوم يتخذ أبعادًا أكثر قسوة في ظل انهيار الاقتصاد حيث تصل البطالة إلى 90% في بعض التقديرات. لم يعد العنف الاقتصادي مجرد حجب للمصروف، بل تحوَّل إلى تحويل المرأة نفسها إلى أداة للإنتاج ومصدر للدخل، عبر إجبارها على أعمال شاقة أو التسول، مع احتفاظ المُعنِّف بالتحكم الكامل في مدخولها.
وهذا ما توضحه قصة وداد خليل (*) التي تُجبر طفلتيها على بيع الكعك وجمع الحطب، بينما يصادر الأب حصيلة عملهما، محوِّلاً إياهما إلى مصدر رزق خاضع تمامًا لهيمنته. تعيش وداد في خيمة بعد رحلة نزوح متكررة، تزوجت وهي لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، في سنٍ لم تكن تدرك فيه تبعات هذا القرار، ولا تَعِي ما ينتظرها من مسؤوليات. ومنذ الشهر الأول لزواجها، واجهت وداد معاملة قاسية وعنفًا جسديًا ولفظيًا، حتى تحولت سنواتها اليافعة إلى سلسلة من الألم والمعاناة.
تستعرض وداد الحكاية من بدايتها: "أنا أمية، أهلي طلعوني من المدرسة من صف ثالث لأن أبويا كان مشلول وبشتغلش وما قدروا على مصاريف الدراسة، فقعدت أخدم أبويا لِقِيت أهلي جوَّزوني وأنا 16 سنة". وتضيف: "من أول شهر زواج، جوزي كان يضربني على أشياء مش مستحقة، وعشت حياتي على هيك، كنت أهرب عند أهلي ويحكولي اصبري ويرجعوني، وأرجع على عيشة كلها فقر وضرب".
بعد اندلاع الحرب على غزة، واجهت وداد ظروفًا معيشيةً أكثر سوءًا، إذ تركها زوجها تنزح إلى جنوب القطاع رفقة أطفالها، بعد إجبار الاحتلال سكان شمال قطاع غزة على النزوح جنوبًا، فوجدت نفسها مضطرةً لتحمل مسؤولية أبنائها والعمل في ظروف صعبة لتوفير لقمة عيشهم وسط غلاء المعيشة وغياب أي مصدر للدخل.
تحكي وداد: "في الحرب جوزي صار أسوأ، ولما أُجبرنا على النزوح كذب عليَّ، قال لي اطلعي وأنا بدي ألحقك، وقعدنا طول فترة الحرب لحالنا سنة ونص، لا يبعثلنا مصروف ولا قدرنا نمشي أمورنا، كنت مضطرة أدبر أموري وأروح أتداين وأشتري كعك وأبيع والربح بشتري فيه طعام".
وحين دخلت الهدنة المؤقتة حيز التنفيذ، قطعت وداد مع أطفالها مسافة طويلة في طريق عودتهم إلى شمال القطاع، حيث تعيش مع زوجها وأطفالها في خيمة بعدما فقدت منزلها، وهنا بدأ فصلٌ جديد من معاناتها مع زوجها الذي سلط عليها وعلى أطفالها جميع أشكال العنف اللفظي والجسدي والاقتصادي، حتى تحوّلت الخيمة إلى ساحة خوف دائم. "صار يهددني بالقتل وبالطلاق، يضرب بناته بالعصي والسيخ الحديد بظهرهم، ويعمل مشاكل بتكون كل الخيم تلتم علينا عشان يضربني ويحكلي والله ليكون قتلك على إيدي".
تكمِل قصتها، بأن زوجها يستفيق صباحًا ثم يرتشف قهوته، ويتجه إلى جمع الحطب مصطحبًا طفلتيه اللتين لم تتجاوز أكبرهما 13 عامًا، لمعاونته ولا تملكان القدرة على الرفض، حيث يعرضهما للضرب والإهانة.
وأوضحت أن فتاتها الكبرى التي تجاوزت 15 سنة، أصبحت ترغب في الزواج للخلاص من عنف الأب، فيما الأم متخوفة من أن تعيش الفتاة حياة مشابهة لما تعيشه الأم الآن.
ومن الناحية السيكولوجية، فإنّ وراء كل قصة عنف، ثمة معادلة نفسية معقدة. يفسر المختصون النفسيون كيف يتحول الإحباط والخوف والفقدان الذي يعيشه الرجل في الحرب - إذ يُجرَّد من قدرته على الحماية والتوفير والقيادة - إلى غضب عاجز. وتتحول المرأة والأطفال، بوصفهم الحلقة الأضعف، إلى هدف لهذا الغضب، في آلية نفسية خاطئة يستعيد بها المُعنِّف وهم السيطرة على مساحة صغيرة من عالمه المنهار. فالخيمة أو البيت المؤقت يصبح مملكةً مصغرةً يفرض فيها سلطته من خلال العنف، معوِّضًا عن عجزه الكامل أمام القصف والقوى المسلحة.
تلك المعاناة التي تعانيها وداد وغيرها العشرات من النساء في غزة، يؤكدها المختار أبو محمد عبيد، أحد رجال العشائر، ويقول: "هناك رجال يستقوون على النساء ويحمِّلونهن عبء المسؤولية وهذه ليست مروءة، ومن واجب الأهل أن يساندوا بناتهم لكن المشكلة الأعقد تكون حين يكون المُعنِّف هو الأب أو الأخ".
وأضاف عبيد: "في مجتمع محافظ كقطاع غزة، فإن حل النزاعات من هذا النوع يعد أمرًا حساسًا للغاية لأن قلة من النساء اللواتي يملكن الجرأة للإبلاغ عن العنف الواقع عليهن، والواقع يشير بشكل واضح إلى وجود عنف ممارس داخل أروقة الخيام ومراكز النزوح وداخل الأسر ولا أحد يعلم عنه شيئًا بسبب ظروف الحرب والنزوح".
وفي إشارة إلى تعقيد الموقف، قال: "غالبية النساء لا يفضلن الإفصاح عما يتعرضن له في هذه الظروف الصعبة بسبب تعقيدات المجتمع وعاداته، حيث تفضل المرأة إخفاء معاناتها تحت وطأة الحفاظ على الأسرة وبخاصة في ظل الحرب لأنها تخشى تفككها وبالتالي تصبح المخاطر أعلى على الأبناء".
وعن فاعلية تدخل رجال العشائر، أوضح: "رغم حساسية وخطورة الأمر، لكن التدخل يحدث في سياق التراضي وليس الإجبار. قد نحصل على وعد من قبل المُعنِّف بعدم التعرض للأنثى، لكن ذلك لا يشكل إلزامًا وبخاصة في ظل غياب السلطة التنفيذية نتيجة الظروف الأمنية المعقدة". بمعنى آخر، أصبح الدور العشائري يفتقد إلى سلطة إلزامية في مواجهة دوامة العنف المنزلي غير الخاضع للمساءلة.
استطلاع الرأي السابق لا يزال يشكل مرآة للمخاوف الحالية. عندما أظهر أن 66% من النساء المُعنَّفات لم يطلبن المساعدة من أحد، وأن 44% ما زلن بحاجة للمساعدة لكنهن لم يخبرن أحدًا بسبب الخوف على السمعة أو عدم توفر سند، فإنه يرسم خريطة طريق للمأساة الحالية. هذه النسب لم تزداد إلا سوءًا. الخوف من "الفضيحة" في مجتمع النزوح المكتظ، وانهيار شبكات الدعم الأسري، وتحول الجميع إلى نازحين مشغولين بالبقاء على قيد الحياة، جعل الصمت خيارًا إجباريًا للمرأة.
وكانت قد فسَّرت المحامية والناشطة النسوية رقية أبو منديل، عدم طلب غالبية المُعنَّفات المساعدة من أحد، بأن هناك مخاوف مُلقاة على المرأة سواء من الزوج أو الأب أو الابن، لذلك تُفضِّل التكتم على العنف الذي تتعرض له داخل الأسرة.
المحامية أبو منديل كانت قد أوضحت آنذاك أن المخاوف الملقاة على المرأة، هي ما يدفع غالبية الضحايا للصمت. واليوم بطبيعة الحال تضاعفت هذه المخاوف وانعدمت آليات الحماية تقريبًا.
لا يبدو من المنطق أن نستعرض القوانين التي تحمي النساء في الأراضي الفلسطينية على اعتبار أنها جزء أصيل من مكونات النظام الفلسطيني، في ظلّ شريعة الغاب التي فرضتها الحرب.
وقالت أبو منديل "عند الحديث عن القوانين والتشريعات في فلسطين نجد أنفسنا أمام مجموعة من القوانين المتناقضة وغير المنسجمة مع بعضها البعض، وغير متوافقة حتى مع واقع المرأة الفلسطينية ولا تتلاءم مع الشرعية الدولية لحقوق الإنسان".
وعلى الرغم من أهمية القانون في حماية المرأة، لكن يبدو أن هناك أمران يحكمان قواعد التعامل في ملف العنف ضد المرأة من قبل جهاز الشرطة في قطاع غزة، ألا وهما "العنف البليغ، وتقديم الشكوى"، طبقًا لما قالته في وقت سابق العقيد ناريمين عدوان مدير إدارة الشرطة النسائية في القطاع.
وأضافت العقيد عدوان: "نحن نقوم بمتابعة القضية وفقًا لرغبة المرأة المُعنَّفة، فإذا كان العنف الواقع عليها بليغًا وهناك أذى كبير، فإننا نسلك الإجراءات القانونية كاملة ونقوم بالتحويل إلى النيابة العامة".
وماذا عن اللواتي لم يُقدمن شكاوى؟، قالت عدوان، "هناك نساء لجأن إلينا ورفضن تقديم شكاوى رسمية بحق مُعنِّفيهن واكتفين بالحديث عن مشكلاتهن، وهُنَّ في هذه الحالة يحتجن معاملة خاصة ودعم نفسي فقط".
قياسًا على ذلك، فإن الكثير من النساء يصارعن العنف داخل ستار الخيمة أو خلف بيوت صفيحية، لذلك حاول المختص النفسي محمد مهنا رسم خريطة للنجاة. فهو لا يتحدث عن حلول سحرية، بل عن خطوات عملية يمكن أن تشكل شريان حياة للنساء المحاصرات.
يؤكد مهنا أن أول خطوة للناجية هي أن تدرك أنها "ليست وحيدة"، حتى وإن شعرت بذلك. يشير إلى أن "بناء دوائر أمان مصغرة" بين النساء أنفسهن داخل مجتمعات النزوح قد يصبح بديلاً شبه مستحيل، لكنه ضروري. مجموعة من خمس إلى عشر نساء يمكن أن يخلقن شبكة دعم غير رسمية، تتبادلن فيها الخبرات وتوفرن مساحة آمنة للحديث، بعيدًا عن أعين المجتمع.
ويرى مهنا أنّ التوعية التقليدية أصبحت رفاهية في زمن الحرب، مقترحًا بدلاً من ذلك "استثمار القادة الطبيعيين" داخل هذه المجتمعات. المُعلِّمات، الممرضات، وحتى بائعات الخبز اللواتي يتحركن بين الخيام، يمكن أن يصبحن عيونًا وآذانًا مدربة على رصد علامات العنف، وقادرات على تقديم إرشادات أولية أو توجيه الناجيات نحو مساعدة ما، بطريقة تحافظ على سلامتهن.
وعلى المستوى الشخصي، يشرح مهنا أن على المرأة أن تبدأ بتفكيك فكرة أن العنف هو "خطؤها". يدعوها إلى أن تستمد قوة من واقعها نفسه، من خلال تذكير نفسها بأنها تدير شؤون أسرتها في أصعب الظروف على الإطلاق. ويقدم أدوات بسيطة للتكيف، مثل "تمارين التنفس" التي يمكن ممارستها سرًا في لحظة التعنيف، كوسيلة لوقف الاستجابة للصدمة والتركيز على البقاء.
أما أكثر نصيحة واقعية وجَّهها في ظل انهيار النظام القضائي، فهي "التوثيق السري". يشجع مهنا النساء على تسجيل حوادث العنف بتواريخها وأماكنها وأسماء الشهود المحتملين، إن أمكن، بطريقة آمنة لا تُكتشف. هذا السجل لن يحقق عدالة فورية، لكنه سيصبح سلاحًا قويًا إذا ما انتهت الحرب وعادت مؤسسات القانون، أو حتى عند اللجوء لوساطة العشائر.
تحت القصف، تجمدت العدالة. المحاكم مغلقة، وبيوت الأمان مدمرة، وحتى وساطة العشائر فقدَت الكثير من فاعليتها في ظلّ دولة الفوضى، النساء المُعنَّفات يعلقن آمالهن على "وقف إطلاق النار" ليس فقط لوقف الموت، بل لاستعادة أبسط حقوقهن الإنسانية.
(*) اسم مستعار


