أمهات: سلطة الوصي في غزة.. حماية أم تحكّم؟

أمهات: سلطة الوصي في غزة.. حماية أم تحكّم؟

في منزل متضرّر من القصف في مدينة غزة، تجلس أم لؤي جميل (35 عامًا) على قطعة إسفنج قديمة تجمع أطفالها الثلاثة حولها. ولا يكادّ المكان يحتوي سوى فرشة وسلّة تضم ما تبقّى من مؤونة الأسبوع. تقول بصوت منخفض إن حياتها تبدّلت كلّيًا منذ أن قضى زوجها نحبه في الحرب قبل عام ونصف، إذ تولّى والده وصاية الأطفال، وبات المتحكّم الوحيد بالمساعدات وما يدخل البيت من طعام واحتياجات.

توضح أنّ الجد هو الذي يقرّر ما يُشترى وما يُمنع، ويعطيها راتب زوجها "بالقطارة"، بحجة الحفاظ عليه لمستقبل الأطفال. وتضيف: "إذا طلبتُ دواءً أو طعامًا لأولادي، يقول لي: دبّري أمركِ بالموجود." كما يحتفظ ببطاقات الهوية، وهو ما تراه الأم شكلًا من أشكال السيطرة جعلها تشعر بأنها "محاصرة داخل سجن صامت".

وتستعيد أصعب ليلة عاشتها: "كان ابني الصغير يبكي من ألم أذنه… ثمن الدواء خمسة عشر شيكلًا فقط. توسّلت إليه فقال: المصروف انتهى. وبقي الطفل يصرخ طوال الليل." وتختم: "أولادي يجوعون أمامي… والراتب موجود لكنه محجوب عنا. هذا الظلم هو ما يقتلنا."

ليست حالة أم لؤي حادثة منفردة؛ بل واحدة من مئات الحالات داخل أسر فقدت معيلها في غزة. فمع ارتفاع غير مسبوق في نسب الترمل واليُتم، تُقدّر "اليونيسف" أن نحو 17 ألف طفل أصبحوا بلا مرافقين منذ اندلاع الحرب، في مؤشر على تراجع شبكات الحماية.

وفي هذا الواقع، تتحوّل المساعدات الإنسانية من سند للأرامل والأيتام إلى مساحة صراع داخل الأسرة، فتُستخدم أحيانًا كأداة سيطرة لا كوسيلة دعم، لتصبح الوصاية في بعض الأحيان "منطقة رمادية" يجد فيها أطفال أمهات أنفسهم محاصرين بين الحاجة وحرمان الحقوق الأساسية.

في حيّ التفاح شرق مدينة غزة، يجلس أبو توفيق جبر (70 عامًا) في فناء منزله المتضرر بفعل القصف. يضع خزانة خشبية قديمة بقفل داخل غرفته لحفظ الأوراق والبطاقات البنكية وقسائم المساعدات. يقول: "أنا الأكبر والمسؤول عن البيت. لا أريد أن تضيع المساعدات… النساء لا يُجدن التدبير."

ويشرح كيف يضبط الإنفاق: "إذا كان مع البنات مصروف يشترين حلويات وطعام جاهز، والأحفاد الشباب يضيعونه على القهوة والسجائر". وبعد فقدان ابنه، يرى أن المساعدات "آخر خيط يجمع العائلة"، ويمنح الأولوية للدقيق والزيت والسكر. أما العلاج فيراه مكلفًا، ويفضّل "الوصفات الشعبية". يعقب: "الأمور تمشي… لكن إذا ضاع الطعام فلا شيء يعوّضه."

وتوضح المختصّة النفسية نور أبو عطية أن هذا التشبّث بإدارة الموارد يظهر حين يفقد كبير العائلة دوره التقليدي كمصدر للأمان، وقد يتحوّل إلى "تعويض نفسي" يمنح شعورًا بالسيطرة وسط الفوضى.

لكن على بُعد أحياء قليلة، تقف هدى أحمد (33 عامًا) عند مدخل منزلها المتصدّع، وتشير إلى عمّ أطفالها الذي يحتفظ بكل المساعدات. تقول: "كل شيء يصل إليه… وهو يقرّر لمن يعطي ومتى يعطي." وتضيف أن مجرد خلاف بسيط قد يدفعه لوقف المساعدة: "أحيانًا نُترك أيامًا بلا طعام." وتؤكد أن الأمر ازداد سوءًا بعد انقطاع راتب زوجها، وأن المساعدة "تحوّلت إلى أداة ابتزاز يومي".

وتتابع: "يرى نفسه وصيًا لأنه لا يوجد نظام يراقبه. قال لي مرة: أريد أن أرى تعاونًا منك والالتزام بقراراتي كي تضمني القسيمة القادمة."

في خيمة قرب ساحة رشاد الشوّا، تعتني أم ياسر شكري (45 عامًا) بأطفالها الأربعة المصابين بحروق جرّاء القصف. يجلس ابنها البكر (14 عامًا) وقد طالت الحروق وجهه ويديه. وتقول إن تحويلة طبية إلى إيرلندا كانت مكفولة بالكامل، لكن عمّ الأطفال رفض تسفيرهم معتبرًا أن العلاج في دولة غير إسلامية "لا يوافق معتقداته".

وتشير إلى أنّ الأطفال الآخرين بحاجة لعمليات تجميل وعلاج طبيعي، لكن العمّ يحتفظ بالأوراق ويرفض تسفيرهم بحجة أن العلاج في الخارج "قد لا يكون مناسبًا للعائلة". وتقول إنه هدّدها في آخر زيارة: "سآخذ الأطفال منكِ وأحرمكِ منهم."

من الجانب القانوني، يوضح المحامي أمير عزّام أن جذور المشكلة تبدأ داخل البيوت، حيث تُدار الوصاية دون رقابة، فلا تملك معظم النساء أي دليل على حجب المال أو المساعدات.

ويوضح عزّام أن التشريعات الفلسطينية، وخاصة أحكام قانون حقوق العائلة المتعلقة بالولاية على المال، تنصّ صراحة على أن الوصيّ "مؤتمن على مال القاصر، وعليه إدارة شؤونه بما يحقق مصلحته ودفع الضرر عنه، ويعزل إذا أساء التصرف أو قصّر في القيام بواجباته"، وهو ما يتطابق مع القاعدة الفقهية التي ترى أنّ الوصاية تكليف لا تمليك.

لكنّ الحرب، كما يقول، عطّلت كثيرًا من أدوات الرقابة على تطبيق هذا النص القانوني؛ فازدادت هشاشة نظام الوصاية، وتحوّل من مظلة حماية إلى مساحة يمكن أن تُمارَس فيها سلطة غير مرئية. ويضيف: "المحاكم تملك صلاحية التدخل من تلقاء نفسها، لكن المتابعة شبه غائبة، وهذا ما يترك الأيتام بلا حماية حقيقية".

مع تكرار هذه الوقائع في أكثر من بيت، من حرمان الأرامل من السيطرة على راتب الزوج الراحل، إلى احتجاز بطاقات الهوية، ومنع العلاج، واستخدام المساعدة الإنسانية كأداة ضغط، تقفز أسئلة حول المنظومة التي يفترض أن تحمي هؤلاء: مَن يضمن للأم حقّها القانوني في إدارة شؤون أسرتها؟ ومَن يراقب الوصي حين يتحوّل دوره من الحماية إلى السيطرة؟

وتنقسم مسؤولية الإجابة، هنا، بين وزارة التنمية الاجتماعية بوصفها الجهة التنفيذية التي تشرف على تسجيل الأسر وصرف المساعدات، والسلطة القضائية بوصفها المرجع القانوني الذي يملك صلاحية التدخل وعزل الأوصياء عند إساءة استخدام الوصاية. فشهادات الحالات تكشف عن خلل لا يعود فقط إلى سلوك بعض الأوصياء، بل إلى منظومة حماية كاملة تعمل اليوم في ظروف شديدة التعقيد.

وعلى المستوى التنفيذي، تقدّم وزارة التنمية الاجتماعية رؤيتها للإجراءات التي تنظّم تسجيل الأسر وصرف المساعدات، باعتبارها الجهة التي تتعامل مباشرة مع مثل هذه الحالات.

المتحدثة باسم الوزارة رجاء العابد، توضح أن الأرملة أو المطلّقة أو أي امرأة فقدَت معيلها يحق لها التسجيل رسميًا كربّة أسرة، والحصول على المساعدة باسمها مباشرة، بعد التحقق من وضعها عبر الزيارات الميدانية. 

وتشير إلى أن "ربّ الأسرة" هو الشخص الذي يتحمّل فعليًا مسؤولية الإعالة، بغضّ النظر عن الجنس أو ترتيب القرابة، ما يعني أن الأم قادرة قانونيًا على إدارة المساعدة ما دامت هي التي تعول الأطفال.

تُسجَّل الأسر التي تضم أيتامًا دون الثامنة عشرة في الوزارة، تحت مسؤولية قريب راشد، وفي حال غيابه أو وجود مؤشرات على سوء الإدارة، تتولى وحدات حماية الطفولة متابعة الحالة ميدانيًا. 

وتؤكد العابد أنّ الوزارة تعتمد آليات رقابة تشمل زيارات فجائية وتحديثًا مستمرًا للبيانات، للتأكد من أن المساعدة تُوزَّع على جميع أفراد الأسرة وليس على شخص واحد، مع إمكانية التدخل في حال تبيّن وجود سوء استخدام أو منع للأم من حقوقها.

أما على الجانب القضائي، فيقدّم قاضي المحكمة العليا عمر نوفل صورة الإطار القانوني، مؤكدًا أن القانون يمنح القضاة صلاحيات واسعة للتدخل، تشمل إصدار قرارات بإيداع أموال القاصر في حسابات خاصة أو تنظيم إدارة شؤونه، ولو بالقوة الجبرية عند الضرورة. 

غير أنّ الواقع الميداني خلال النزاع يُظهر أن هذه الصلاحيات ظلّت محدودة التطبيق؛ إذ أدّت الحرب إلى تعطّل المحاكم وتراجع قدرة الجهاز القضائي على التبليغ والمتابعة، ما جعل كثيرًا من الإجراءات القانونية أقرب إلى نصوص غير قابلة للتفعيل الفعلي.

ويضيف أن ارتفاع أعداد الأيتام أدى إلى ضغط كبير على المنظومة، وأنّ النزاعات بين الأمهات والأجداد ازدادت بينما يبقى الأطفال الضحية الأولى. ويرى أن المشكلة ليست في النصوص القانونية بل في القدرة على إثبات الانتهاكات داخل الأسر المتصدّعة بفعل الحرب.

تكشف هذه الحالات جانبًا خفيًا من آثار الحرب داخل الأسر التي فقدت معيلها في غزة. فغياب الدخل والوصاية الفعالة يدفع بعض الأوصياء للتمسّك بإدارة الموارد كآخر ما تبقى لهم من سلطة. وتوضح نور أبو عطية أن ذلك يصبح آلية دفاعية لتعويض الشعور بالفقد.

أما الأمهات، فيواجهن عبئًا نفسيًا قاسيًا: الخوف، العجز، والإذلال. وتشير أبو عطية إلى أن حرمان الأم من اتخاذ قرار بشأن علاج طفلها أو وصولها إلى راتب الزوج الراحل يُفقدها إحساسها بدورها الأساسي ويعمّق مستويات القلق والاكتئاب. 

وفي هذا الواقع، يصبح الأطفال والأمهات الحلقة الأكثر هشاشة، بينما تتراجع المساعدة الإنسانية من أداة حماية إلى ساحة يُعاد فيها هندسة السلطة داخل البيت الواحد.