تحت أنقاض منزلٍ دمّرته الحرب في مدينة غزة، يجلس مؤمن عبد الهادي في غرفةٍ نجت بالكاد من الانهيار، أمام ميكروفونه البسيط، محوّلًا هذا الركن الضيّق إلى ما يشبه استوديو يصلّ صوته إلى آلاف المستمعين.
في الوقت الذي نزح فيه معظم سكّان شمال القطاع نحو الجنوب، آثر مؤمن البقاء هناك، محاصرًا بانقطاع الكهرباء وندرة الإنترنت وشحّ أساسيات الحياة. ومع قسوة الحصار الذي فرضته ظروف النزاع، تكوّن داخله خيطٌ رفيع من الإصرار دفعه نحو فكرة لم تخطر بباله يومًا: البودكاست.
يقول عبد الهادي (32 عامًا): "لم أستطع النزوح؛ فالظروف لم تسمح بذلك. بقيت في شمال القطاع طوال فترة الحرب. كنا نعيش على ساعة كهرباء أو أقل في اليوم، فيما كان الإنترنت بالكاد يعمل. أما الوضع الاقتصادي فكان معدومًا؛ لا عمل ولا دخل، عندها شعرت بأن عليّ أن أجد طريقة أعيد بها صوتي إلى الحياة".
يستعيد بداياته الأولى مع التسجيل وسط القصف، حين كان يجلس في غرفته محاطًا بصوت الانفجارات. كان يضغط زر التسجيل بينما تتردّد في الخلفية أصوات المدافع، ثم يضطر إلى إيقافه كل بضع دقائق بسبب ضعف الشبكة أو انقطاع الكهرباء. ومع كل محاولة، كانت الفكرة تترسّخ داخله أكثر؛ إذ شعر أنّ البودكاست ليس مجرد مساحة للحديث، بل احتمال لباب رزق، ونافذة صغيرة يتنفّس منها وسط حصار الحرب.
ويصف تلك المرحلة قائلًا إن الحرب، رغم ما سرقته منهم من أمان وفرص وأيام، منحتهم أيضًا إرادة غريبة تدفعهم إلى خلق شيء من العدم. بالنسبة إليه، وُلد محتواه الصوتي من قلب الأزمة، من أصعب مكان في غزة، ولعلّه لامس الناس لأنه خرج من التجربة نفسها، من الحقيقة التي عاشوها جميعًا، ولذلك سمعوه.
وبينما كان مؤمن يشقّ طريقه وسط الدمار، لم تكن تجربته حالة فردية معزولة؛ فمع تحطّم البنى الاقتصادية وغياب البدائل، وجد عشرات الشبان في المحتوى الصوتي مساحة تجمع بين التعبير والبحث عن مورد رزق. ومع طول أمد الحرب تراجعت فرص العمل التقليدية إلى حدٍّ غير مسبوق، فارتفعت معدلات البطالة في قطاع غزة إلى نحو 80%، فيما أظهرت بيانات رسمية أن 74% من الشباب (بين 15 و29 عامًا) أصبحوا خارج التعليم والتدريب والعمل.
وفي هذا الواقع الذي انهارت فيه المؤسسات الخاصة والحكومية وتوقفت فيه الرواتب، حوّل الشبان والفتيات الهاتف المحمول إلى أداة إنتاج رئيسية، فصارت الغرف الضيقة والملاجئ المؤقتة استوديوهات بديلة تعكس كيف يحاول الجيل الشاب إعادة تشكيل علاقته بالعمل والاقتصاد والحياة اليومية في زمن الحرب.
في بيئة بلا كهرباء مستقرة، ولا إنترنت جيد، ولا إمكانية لتشغيل معدات تصوير، يصبح الصوت أداة أقل تكلفة وأكثر قدرة على الوصول من الصور والفيديو. وهو اتجاه ينسجم مع النمو العالمي في الاستماع للمدونات الصوتية، حيث ارتفعت معدلاته خلال السنوات الأخيرة في المنطقة العربية رغم التحديات التقنية.
ومن بين هؤلاء، كانت جودي الكفارنة، التي وجدت في البودكاست وسيلة لتوثيق ما يعيشه جيل كامل تحت ثقل النزاع. فكانت تُمسك هاتفها الذكي كما لو كان متنفسها الأخير، محوّلة غرفتها المتواضعة إلى مساحة صغيرة تتدفق منها الأسئلة والهموم التي تشغل جيلها.
الكفارنة، ذات الخامسة والعشرين عامًا، انطلقت في تجربتها من أدوات بسيطة لا تتجاوز هاتفًا قديمًا وبعض الإصرار؛ كانت ترتّب الكتب خلفها لتخفيف الصدى، وتدوّن أفكارها على قصاصات ورق خشية أن تفقدها وسط زحام الأحداث، وتنتظر ساعات وصول الكهرباء كي تتمكن من رفع حلقة قصيرة على الإنترنت الذي لا يعمل إلا نادرًا.
ومع كل محاولة، كانت تكتشف قدرتها على تحويل القيود التقنية والاقتصادية إلى حافزٍ إضافي لتقديم صوت جديد في ظلّ الضجيج القاسي الذي فرضته الحرب.
وفي التفاصيل، تقول: "كنت أصوّر وأسجّل بالهاتف؛ لم تكن لديّ معدات ولا ميكروفون محترف. كل شيء كان صعبًا، الكهرباء، الإنترنت، والعمل. الوضع الاقتصادي خنقنا جميعًا، فلم يبقَ أمامي إلا أن أخلق مساحة أحكي فيها عمّا يمرّ به جيل كامل."
ومع تبلور تجربتها، وجّهت الكفارنة اهتمامها نحو القضايا الاجتماعية التي فاقمتها الحرب، لاسيما العلاقات المتداخلة داخل البيوت المكتظّة بالنازحين، ضغط الحياة اليومية، الصحة النفسية للشباب، وكيف تغيّرت نظرتهم إلى المستقبل. كانت ترى في تلك التفاصيل عبئًا صامتًا يحمله جيلٌ كامل دون أن يجد منفذًا للبوح.
وتردف: "شعرت بأن هناك أمورًا ينبغي أن تُقال (...) البنات، والشباب، والضغوط التي يعيشونها. كان الجميع صامتًا. البودكاست أصبح صوتي وصوتهم، ووجدت تفاعلًا من الناس لم أتوقعه."
ثم تبتسم ابتسامة خفيفة، وتضيف: "حتى لو كان العائد بسيطًا، فقد كان بالنسبة إليّ خطوة أولى. أن يتحول صوتي إلى فرصة تمنحني بعض القدرة على الاستمرار وسط هذه الظروف كان ذلك وحده دافعًا لكي أمضي."
أما أيهم وشاح (30 عامًا)، فدخل ذلك العالم الصوتي من بوابة مختلفة تمامًا، ليس بحثًا عن مساحة للتعبير، بل عن مصدر دخل مباشر في ظلّ ظروف الصراع التي أغلقت كل أبواب الرزق. كان قبل اندلاع النزاع يعمل في مجال التدريب ويقدّم ورشًا صغيرة، لكن كل شيء توقّف مع الأيام الأولى للعدوان، وبات بلا أي مورد مالي.
أمضى شهورًا يبحث عن فرصة عمل دون جدوى، إلى أنّ اكتشف مصادفة أن شركات ومنصّات خارج غزة تبحث عن شبّان لتسجيل بودكاست مقابل مبالغ مالية، فأصبح يسجّل حلقاته على ضوء كشاف صغير، وينتظر ساعات طويلة ليتمكّن من رفع عشر دقائق من الصوت عبر شبكة الإنترنت المتقطّعة.
يقول وشاح: "كنت أراقب اتصال الإنترنت لساعات لأتمكّن من رفع المقاطع الصوتية" كان ذلك مرهقًا ومتقطّعًا، لكن المقابل الذي كان يتقاضاه بالدولار هو ما أتاح له الاستمرار؛ إذ مكّنه من تغطية مصاريف البيت ومساندة عائلته في وقت تهاوى فيه الاقتصاد بالكامل.
ويوضح أن كثيرين يظنّون أن الإنتاج الصوتي مجرّد هواية، لكنه بالنسبة إليه كان بمثابة طوق نجاة، فلو لم يظفر بتلك الفرصة، كما يقول، لما عرف كيف يمكن أن يواصل حياته وسط الظروف القاسية التي عاشها.
في مسار موازٍ لتجربة وشاح، تخوض هيام صبح (38 عامًا) رحلتها الخاصة مع البودكاست، مستندة إلى سنوات طويلة من الخبرة المهنية والحياتية. تقول: "في هذا العمر، يحمل المرء ما يكفي من القصص والحكايات ليشاركها. وكانت المنصة الصوتية وسيلتي لتأمين مصدر دخل لعائلتي."
عملت هيام سابقًا في إدارة مشاريع صغيرة داخل مؤسسات محلية، لكن الحرب أغلقت تلك المؤسسات وأوقفت الرواتب، لتجد نفسها فجأة مسؤولة عن بيت كامل بلا أي دخل.
تروي: "فجأة أصبحت أمام أعباء منزل كامل، بينما الدخل معدوم. كنت أسجّل بصوتٍ منخفض ليلًا كي لا أوقظ الأطفال، ومع انقطاع الكهرباء كنت أستخدم هاتف ابنتي القديم. ومع ذلك، وجد صوتي طريقه إلى الناس، وبدأت تصلني فرص عمل من خارج غزة."
وتتابع بابتسامة يمتزج فيها الحزن بالقوة: "لم أتوقع يومًا أن يكون صوتي قادرًا على سدّ الفراغ الذي خلّفه فقدان عملي. لكنها غزة، المكان الذي يعلّمك كيف تعيد بناء نفسك في كل مرة."
المحاضر في جامعة الأزهر والمختص في الشؤون الاقتصادية سمير أبو مدلّلة، يقول إن القطاع الرقمي كان نشطًا قبل الحرب رغم ضعف الإمكانيات. ويفيد أن عددًا كبيرًا من الشباب اعتمدوا على العمل عن بُعد مع شركات خارجية، لكن نقص البنية التقنية خلال الحرب أثّر بصورة كبيرة على هذا القطاع، الذي كان يشكّل متنفسًا اقتصاديًا مهمًا.
وبحسب أبو مدللة، بدأت بعض الفرص الرقمية بالعودة تدريجيًا بعد وقف إطلاق النار في أكتوبر الماضي؛ لكنها عودة هشّة ومحدودة التأثير، لا تتجاوز تحسينات طفيفة في أوضاع الشباب ضمن واقع يهيمن عليه الفقر والبطالة.
أمّا عن المحتوى الصوتي، فيشير إلى أنه تحوّل بالفعل إلى مسار اقتصادي قائم بذاته؛ إذ بات كثير من الشباب يستخدمون هذه المنصات لرواية تجاربهم وإيصال قصصهم إلى العالم، ما وفّر لهم منفذًا اقتصاديًا يساعدهم على مواجهة الظروف الصعبة التي يعيشونها.
ويضيف أن الاقتصاد الشبابي لا يشهد انطلاقة جديدة في هذه المرحلة، بل يعيش، كما يقول، مشهدًا أشبه بـ "تعافٍ بطيء يلاحق أزمة كانت قائمة أصلًا." ويوضح أنّ مؤشر البطالة كان يقترب من 70% حتى قبل الحرب، وأن شهور النزاع عمّقت هذا الواقع أكثر، لتبقى فرص العمل بعد توقف القتال محدودة وحركة السوق غير قادرة على استيعاب الداخلين الجدد، وهو ما يطيل أمد تعافي هذا القطاع الحيوي.
ويشير في ختام حديثه إلى أن قطاعي المحتوى الصوتي والعمل عن بُعد يمكن أن يتحوّلا إلى رافعة تنموية حقيقية في غزة والضفة، بوصف الطاقات البشرية رأس المال الأبرز المتاح حاليًا. إلا أن هذا التطور ما يزال محدودًا، كما يقول، بفعل القيود التقنية وغياب بنية تحتية قادرة على دعم هذا النوع من العمل. ويرى أن الاستثمار في هذا القطاع في مرحلة ما بعد العدوان سيكون ضرورة لتعزيز فرص الشباب وتطوير علاقتهم بالتكنولوجيا.
ويرى خبراء أن ازدهار هذا القطاع، إن تحقق، قد يعيد رسم علاقة الشباب بسوق العمل في غزة. فالمحتوى الصوتي والعمل الرقمي قد يتحوّلان إلى نافذة جديدة تبقى مفتوحة حتى في ظلّ البنى التحتية التي دمّرتها الحرب.


