يشعر المواطن الغزّي محمود إسماعيل (56 عامًا) كأنّه يقف منذ عامين على عتبة انتظار لا ينتهي، يترقّب شيك الشؤون الاجتماعية ــ المخصص المالي الذي تقدّمه وزارة التنمية الاجتماعية للأسر الأكثر فقرًا ويُصرف كل ثلاثة أشهر ــ لكنّه تحوّل اليوم من حقّ مكتوب يُصرف بانتظام إلى حلم معلّق في الهواء.
نفدت مدخرات اسماعيل، وتراكمت الديون على كاهله، فيما يواجه غلاءً معيشيًا يزداد وطأة. قبل عامين فقط، كان يعتمد – ولو في الحدود الدُنيا – على هذا الشيك لتدبير احتياجاته الأساسية. أمّا اليوم، فلا مستحق ينتظره ولا مبلغ يمكن الاتكال عليه، وكلما سأل عن موعد الصرف، لا يحصل هو ولا غيره من المنتفعين على إجابةٍ واضحة.
يقول وهو يُعدد ديونه: "لا مصدر دخل لي، أنا مريض بالضغط والسكري، أُرهق من أقلّ مجهود فلا أستطيع العمل. كنت أعتمد على المبلغ الذي يأتيني من الشؤون الاجتماعية، وأقتطع منه لأدّخر لابنتي الجامعية حتى تدفع رسومها، لكن منذ اندلاع الحرب والمصائب تتوالى".
ولا يقف إسماعيل وحده أمام هذا الواقع القاسي؛ فخلفه تمتد طوابير طويلة تضمّ نحو ثمانين ألف أسرة مُسجّلة لدى وزارة التنمية الاجتماعية، كانت تعتمد على هذا البرنامج الذي يشكّل أحدّ أهم أدوات الحماية الاجتماعية. وتتراوح قيمة الشيك بين (700- 1800 شيكل) تبعًا لعدد أفراد الأسرة ووضعها الاجتماعي والاقتصادي، وكان يوفّر تغطية لمصاريف أساسية مثل الطعام، الدواء، الإيجار، المواصلات، ورسوم التعليم. ومع انقطاعه، فقدت آلاف الأسر مصدر الدعم المنتظم الوحيد الذي كانت ترتكز عليه.
منذ اندلاع الحرب، توقفت الدفعات نتيجة تداخل عدة عوامل؛ منها توقف التمويل الأوروبي لفترة، وتراجع الدعم الخارجي، والأزمة المالية التي تواجهها الحكومة الفلسطينية، وتوقف عمل البنوك في قطاع غزة لفترات طويلة، وغياب السيولة المالية، إضافة إلى تغيّر أوضاع عشرات الآلاف من الأسر بشكل يتطلب تحديثًا شاملًا لقاعدة البيانات. ومع هذا التوقف، وجدت الأسر الأشد فقرًا نفسها أمام فراغ كامل في منظومة الحماية الاجتماعية.
خولة خليل (49 عامًا) كانت واحدة من هؤلاء. اعتمدت اعتمادًا كاملًا على شيك الشؤون بعد وفاة والديها. كانت تتلقى سبعمائة شيكل كل ثلاثة أشهر، وحين تتأخر المستحقات تستدين من بقالة جارهم وتعِده: "فور نزول شيك الشؤون سأسدد ديوني".
تقول بحزنٍ ارتسم على ملامحها، إنّها ورثت قطعًا ذهبية عن والدتها وباعتها جميعًا خلال الحرب لتغطية مصروفات النزوح والطعام الذي تضاعفت تكلفته. مرّت أشهر النزاع الأولى وظنّت أنّ المخصصات ستُصرف في ظلّ الأزمة، لكن شيئًا لم يحدث.
تردف: "كل من كان يُداينني قبل الحرب توقّف، بعدما بات معلومًا أنّ شيك الشؤون مقطوع بالكامل". واليوم تعتمد فقط على تحويلات بسيطة من أقاربها في الخارج لا تكفي لتغطية إيجار حيز الأرض التي تُقيم عليها خيمتها، والبالغ ثلاثمائة شيكل.
أما الستيني أبو محمد عبد الرحمن، فيعبّر عن امتعاضه من انقطاع المستحقات قائلًا بلهجةٍ غاضبة: "إن لم تقف وزارة التنمية الاجتماعية بجانبنا في أيام الحرب، فمتى ستقف؟ كيف تُقطع عنا ونحن في أمسّ الحاجة إليها؟ كان من المفترض أن يزداد المبلغ لا أن يُقطع تمامًا".
ويوضح الرجل الذي يرتكز إلى عكازه، أنّه اضطر لافتتاح بسطة لبيع المواد الغذائية خلال الحرب، لكنها لا توفر له مصدر دخل مستقر، والأسعار المتقلبة تجعل إيراده اليومي هشًا. يضيف: "إلى حدٍ ما كان شيك الشؤون يُساندني ويخفف العبء، أما الآن فالواقع أكثر قسوة".
وما يجعل تجربته أكثر ثقلاً أنّ الواقع من حوله ينهار بلا أفق واضح، فالأزمة الاقتصادية تضرب القطاع بقوة، إذ ارتفع مؤشر الأسعار بنسبة 53.67%، وانخفضت القدرة الشرائية بنسبة 70.41%، وبلغت معدلات الفقر 100%، فيما تجاوزت البطالة 80%. معظم الأسر باتت تعتمد كليًا على المساعدات الإنسانية للبقاء.
ومع اتساع دائرة العجز وغياب أي بارقة أمل، تتابع سهيلة نصر بقلقٍ بالغ كل بيان يصدر عن وزارة التنمية الاجتماعية كلما تمكنت من الوصول إلى شبكة الإنترنت، بحثًا عن خبر يؤكد قرب صرف الشيك، لكنها لا تجد شيئًا.
تقول بصوتٍ مُنهك: "كان مصدر الدخل من الشؤون يمنحني بعض الأمان المالي. أستدين وأنا مطمئنة أنني سأتمكن من السداد. الآن لا شيء أستند إليه. تأتيني كرتونة غذائية كل فترة، لكنها لا تكفي. أحتاج مالًا لشراء الدواء وحاجيات أخرى.
لذلك تقترح هذه السيدة، التي أثقلتها قسوة الحرب واستنزفت ما تبقّى من قدرتها على الاحتمال، أن تمنحهم الوزارة مخصصًا شهريًا ولو مئة دولار فقط، لعلّه يخفف شيئًا من ضيق الأيام. وتروي بحزن أنّ هذه المساعدة لم تكن يومًا راتبًا ثابتًا ولا حقًا تراكميًا، وأن غيابها يتركهم معلّقين في الفراغ، لا يعرفون إن كانت ستُصرف لاحقًا أم تمضي كما مضت أشياء كثيرة في زمن الحرب.
أمام هذا المشهد المثقل بالأسئلة والانتظار، يتساءل المنتفعون: لماذا توقّف شيك الشؤون طوال الحرب؟ ومن يتحمّل مسؤولية غياب المخصصات التي تعتمد عليها عشرات آلاف الأسر؟ وهل تملك وزارة التنمية خطة واضحة لإعادة صرف الدفعات أو تعويض الأسر المتضررة؟
بهذه الأسئلة توجهت مراسلة "آخر قصة" إلى المتحدثة باسم وزارة التنمية الاجتماعية في رام الله، رجاء العابد، باعتبار الوزارة الجهة المسؤولة عن إدارة البرنامج وتنفيذه.
وردت العابد موضحة أن توقف الصرف جاء نتيجة "مجموعة أسباب متداخلة"، في مقدمتها تعطلّ الإجراءات الفنية للصرف وشراكات التنفيذ الدولية التي تعتمد عليها الوزارة في التدقيق وتحويل الأموال، قائلة إن "الحرب حالت دون استكمال هذه الإجراءات"، إلى جانب أزمة مالية خانقة تمر بها الحكومة الفلسطينية بسبب توقف الإيرادات وتراجع الدعم الخارجي وارتفاع تكاليف الطوارئ.
وعند الاستفسار حول سبب عدم إيجاد بدائل أو حلول مرحلية، أشارت العابد إلى أنّ آلية الدفع تعتمد حصريًا على البنوك، وهذه لم تعمل بشكل كامل خلال الفترة الماضية، كما لم تتوفر السيولة الكافية لدى الحكومة أو البنوك لتنفيذ عملية الصرف. وأوضحت كذلك أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للعديد من الأسر قد تغيّر جذريًا خلال الحرب، ما يستلزم تحديثًا شاملًا لبيانات المستفيدين قبل استئناف أي دفعات جديدة.
وحول مسؤولية الوزارة تجاه الأسر التي تضررت نتيجة توقف البرنامج، قالت العابد إن الوزارة "حاولت تقليل أثر الانقطاع" عبر التعاون مع المؤسسات الدولية، بما في ذلك برنامج الغذاء العالمي، اليونيسف، إنقاذ الطفل، وOCHA، لتقديم مساعدات نقدية وغذائية بديلة للأسر المسجلة.
وبخصوص السؤال الأكثر إلحاحًا لدى الأسر: هل ستُصرف المستحقات بأثر رجعي بعد إعادة تشغيل البرنامج؟، جاءت إجابة العابد قاطعة: "لا، هذه المخصصات ليست راتبًا أو حقًا تراكميًا، بل مساعدة فورية للاحتياجات الآنية، لذلك لا تُصرف بأثر رجعي حتى لو تأخرت الدفعة".
أما بشأن الخطط المستقبلية، فأكدت أن الوزارة تتّجه لصرف مساعدات طارئة للأسر المستفيدة في قطاع غزة خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2026، على شكل مبالغ مقطوعة لتغطية الاحتياجات السريعة، بالتوازي مع عملية تحديث شامل لبيانات الأسر لضمان وصول المساعدات وفق نظام البرنامج النقدي.
وما بين الوعود الغائبة والاحتياجات المتراكمة، يظلّ المستفيدون من شيك الشؤون الاجتماعية في غزة عنوانًا حيًّا لمعاناة لا ينبغي أن تطول. فهذه الأسر التي اعتمدت لسنوات على هذا البرنامج كي تحافظ على الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة، تجد نفسها اليوم تخوض حربًا داخل الحرب: حرب الفقر، وانعدام الدخل، وتراجع الأمان المعيشي. ويظلّ سؤالهم معلّقًا، كما هو شيكهم: هل تتحرك الجهات المعنية فعلًا للنظر في احتياجات هذه الأسر التي أنهكها الصراع؟


