غياب الضمان الاجتماعي يعزز الجوع واليتم والإعاقة

غياب الضمان الاجتماعي يعزز الجوع واليتم والإعاقة

يجلس آدم جمال (9 أعوام) قرب مدخل خيمتهم الصغيرة التي نُصبت على عجل فوق أرض رملية في وسط قطاع غزة. يسند جذعه النحيل على وسادةٍ قديمة متيبّسة، بينما تمتد ساقه اليسرى وحدها أمامه؛ أمّا اليمنى، فتنتهي عند ضمادةٍ سميكة تلفّ ما تبقّى منها بعد بترها قبل أشهر، يمسك بيده عكازه الخشبي الذي صنعه له والده قبل أن يُقتل في قصف إسرائيلي.

تضغط والدته على طرف وشاحها بين أصابعها وتحاول أن تُخفي ارتعاش صوتها وهي تقول: "كان يجري خلف الكرة كل صباح… الآن يخاف أن يخطو خطوة واحدة". تتذكر ركضه في ساحة البيت وضحكاته المتطايرة، وتقول إن تلك الصورة لا تفارقها كلما نظرت إلى ضمادته. وترى أنّ الأصعب ليس البتر نفسه، بل محاولة إقناعه بأنّ العالم ما زال آمنًا بما يكفي ليقف عليه من جديد.

يرفع آدم رأسه ببطء، يُحدّق في الفراغ كأنّه يبحث في الهواء عن صور من حياته السابقة: طريق المدرسة، ملعب الحي، ضحكات أخيه الذي قُتل في القصف نفسه الذي أصابه. ثم يهمس بصوت يكاد لا يُسمع: "أريد أن أركض… لكن رجلي لا تساعدني."

يتكرر هذا المشهد اليومي في آلاف الخيام، ليكشف أحد الوجوه المبكرة لمأساة تضرب جيلًا كاملًا من الأطفال. فمعاناة من بُترت أطرافهم لا تقف عند حدود الجرح أو الخوف من المشي، بل تمتد إلى صعوبة الوصول إلى التعليم أو القدرة على التعلم، والعجز عن اللعب، وفقدان الإخوة أو أحد الوالدين، والانقطاع عن العلاج داخل خيام لا تضمن غذاءً كافيًا ولا مأوى آمنًا. إنها طبقات متراكمة من الفقد والحرمان، يتداخل فيها الجسدي بالنفسي واليومي بالوجودي، لتصنع ملامح جيل ينمو في ظروف لا تشبه طفولة.

وعلى قسوة ما تحمله قصة آدم من ألم، فإنّها تتشابه مع الكثير ممّا يعيشه آلاف الأطفال في غزة اليوم. فكل رقم جديد تُسجّله الجهات المختصة يحمل وجوهًا مشابهة لوجهه. وتكشف بيانات مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية الذي يضع هذه القصص داخل إطارها الأوسع، كاشفًا عن حجم الكارثة التي خلّفها الصراع على الأطفال، وعن الفجوات التي يحاول التضامن الاجتماعي سدّها.

في هذه القصة المدفوعة بالبيانات، سنضعكم أمام التحوّلات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية التي امتدّت لعامين على قطاع غزة على الطفولة، ونوضح كيف امتدّ الأثر من الإصابات وفقدان الأفراد والأسر إلى الجوع وفجوات التعليم، وكيف تبدو محاولات الاستجابة في ظلّ أزمة اقتصادية وصحيّة غير مسبوقة.

تشير بيانات المرصد إلى أنّ 67,173 فلسطينيًا قُتلوا خلال حرب الإبادة، من بينهم 20,179 طفلًا أي نحو ثلث الضحايا. وأصيب نحو 169,780 شخصًا، بينهم 42 ألف طفل، وأكثر من 21 ألفًا من الأطفال يعانون إعاقات دائمة.

طبيب جرّاحة الأطفال، خالد السعيدني، يقول إنّ "الأطفال ذوي البتر يحتاجون أطرافًا صناعية تتناسب مع نموهم كل عام تقريبًا، والمنظومة الصحية الحالية غير قادرة على توفير هذا النوع من الرعاية المستمرة".

بدورها، تُعقب المختصة النفسية عروب جملة بأنّ الأطفال الذين يجتمع لديهم "البتر والفقد" يعانون صدمة معقّدة تتجاوز الألم الجسدي: "فقدان الطرف حتى إذا استطاع الأطفال في غزة تجاوزه طبيًا رغم كل المعيقات الحالية، فإنّ فقدان الإحساس بالأمان لا يُرمّم بسهولة".

وتشير إلى أنّ هؤلاء الأطفال يدخلون في دورة خوف طويلة الأمد، تتداخل فيها الذاكرة الجسدية للألم مع الذاكرة العاطفية للفقد.

لكن القسوة تبلغ ذروتها في فئة أخرى، إذ أنتجت الحرب مصطلح جديد يتعلق بفئة الأطفال المصابين الذين فقدوا كل أسرهم بسبب الحرب، وهو الطفل الذي نجا من الغارة وحده. من بين هؤلاء كانت ليان ماجد (7 أعوام)، التي عُثر عليها تحت ركام مركز إيواء نزحت إليه العائلة وسط مدينة غزة، مصابة بشظايا في الساق والكتف، بينما قُتل والداها وشقيقاها الثلاث.

في الساعات الأولى، لم يجد المسعفون أحدًا يتقدم لاستلامها أو التعرف عليها. كانت تسأل الممرضة في مستشفى الأهلي العربي "المعمداني"، "أين أمي؟ لماذا لم يأتي أحدّ ليأخذني؟" وكان السؤال يبقى معلّقًا.

تقول ريّم فريّانة، المديرة التنفيذية لجمعية "عايشة" لحماية الطفل والمرأة في غزة، إنّ الأطفال الذين فقدوا أحد الوالدين أو كليهما يدخلون “منطقة عالية الخطورة” على مستوى الحماية النفسية والاجتماعية.

وتضيف: "الحرب لا تترك الطفل بلا أسرة فقط؛ بل تجرده من شبكة الأمان الأولى التي بُنيت عليها طفولته. الطفل اليتيم أو الجريح بلا عائلة يحتاج متابعة مستمرة، وليس استجابة طارئة. من دون رعاية طويلة الأمد، تتحوّل الصدمة إلى نمط حياة".

من وجهة نظرها ترى فريّانة أنّ فئة "الطفل الجريح بلا عائلة" هي الأخطر على الإطلاق، لأنّ الطفل يفقد مقدمي الرعاية، ويفقد أيضًا المعنى الذي ينظّم عالمه. وتتابع: "هذا الطفل يحتاج شخصًا يطمئنه كل ساعة، يرعاه، يحمله، يسنده. غياب ذلك يخلق صدمة مزدوجة: صدمة الحدث وصدمة الوحدة".

وتكشف البيانات المحلية عن حجم هذا الانهيار الأسري. فقد خلّفت الحرب 58,554 يتيمًا، بينهم 55,861 طفلًا فقدوا أحد الوالدين، و2,693 فقدوا كليهما. كما ارتفع عدد الأرامل إلى 22,057 امرأة، وبلغ عدد الأطفال الذين فقدوا الأب تحديدًا 49,758 طفلًا، مقابل 6,103 أطفال فقدوا الأم، ما يشير إلى منظومة أسَر تُمحى، وتُترك وراءها طبقات جديدة من الهشاشة.

وما بين البتر واليُتم، يتقدّم جوع الأطفال كعلامة أخرى على حجم الانهيار الذي طال أدق تفاصيل حياتهم خلال الحرب. فالمجاعة لم تأتِ دفعة واحدة، بل زحفت ببطء مع اختفاء الخضروات والطحين وارتفاع الأسعار، حتى تحوّلت الوجبة اليومية إلى ترف يصعب تأمينه.

لم يعد الجوع حالة فقر عابرة، بل نتيجة مباشرة لانهيار كامل لمنظومة الغذاء: أسواق فارغة، زراعة مدمّرة، طرق مغلقة، ومخازن اختفت محتوياتها. وهكذا صار الجوع وجهًا آخر للحرب، ينهش أجساد الأطفال كما تنهش الشظايا أطرافهم.

في إحدى الخيام في منطقة مواصي القرارة جنوب قطاع غزة، تقف أم لؤي جبر أمام طفلها الذي يعاني من نحول واضح، فقد تراجعت وزنه إلى الحدّ الذي باتت معه الحركة عبئًا. تقول إن طفلها لم يتناول وجبة كاملة منذ أشهر، وإنها تضطر لصنع خليط من الماء والدقيق لإسكاته.

لا يبدو لؤي كطفل في الثالثة؛ جلده يلتصق بعظامه وبطنه غائر من شدّة الجوع. تحاول أمّه حمله فيتهادى بين يديها من الوهن، إذ فقد القدرة على الجلوس طويلًا. أخبرها الطبيب في النقطة الطبية القريبة منه خيمتهم، بأنّ وضعه يندرج ضمن "الهزال الحادّ"، وأنّ تأخر العلاج قد يترك أثرًا دائمًا على نموه.

يؤكد رئيس قسم الأطفال في مستشفى كمال عدوان، حسام أبو صفية، أنّ حالات سوء التغذية الحادّ بين الأطفال "تتضاعف كل أسبوع تقريبًا"، وأنّ الأطفال دون سنّ الخامسة هم الأكثر عرضة للوفاة. وتُشير بيانات المرصد إلى أنّ 132 ألف طفل دون الخامسة مهدّدون بسوء التغذية الحادّ، في واحدة من أسوأ الأزمات الغذائية التي شهدها القطاع.

إلى جانب الخسائر البشرية، تكشف البيانات عن أعمق أزمة اقتصادية يمرّ بها القطاع في تاريخه. فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 83%، خلال عام 2024، ووصلت معدلات البطالة إلى 80%، وارتفعت أسعار السلع الأساسية بأكثر من 400%.

ومع توقف النظام المصرفي وتعطّل شبكات التحويلات، تحوّلت المساعدات النقدية القادمة من الخارج إلى شريان الحياة الوحيد لكثير من الأسر. لكن هذا الشريان لم يَسلم من التشوّه؛ إذ لجأ الأهالي إلى وسطاء غير رسميين، يُعرفون محليًا بـ "المُكَيِّشين"، لتمرير التحويلات مقابل عمولات تتراوح بين 15-30%، ما يعني أنّ جزءًا كبيرًا من المساعدة لا يصل أصلًا إلى مستحقيها.

ويوضح المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر، أنّ التدهور الاقتصادي لا يمثل مجرد أرقام كارثية، بل ينعكس مباشرة على قدرة الأسر على تأمين الحدّ الأدنى من حياة مستقرة للأطفال.

هذه الظروف أدّت إلى تفاقم الهشاشة الاجتماعية وهو ما دفع جهات محلية إلى إطلاق مبادرات تُصنَّف ضمن "التضامن الاجتماعي" أو "المسؤولية الاجتماعية"، من مؤسسات أهلية إلى شركات خاصة ومجموعات تطوعية.

في عام 2024 أنفقت البنوك الفلسطينية نحو 7.55 مليون دولار ضمن هذا البند، كان لبنك فلسطين نصيب الأسد منها إذ استحوذ على أكثر من نصفها، وأطلقت شركات أخرى برامج إغاثية وتعليمية، فيما قدّمت مجموعات كبرى مثل "أيبك" نسبًا أعلى من أرباحها. ومع ذلك، بقيت معظم الجهود قصيرة الأمد، وغير قادرة على ملاحقة تعقيد احتياجات الأطفال.

على الأرض، تقدّم المؤسسات الأهلية كفالات للأيتام ودعمًا نفسيًا ومنحًا تعليمية، لكنها تواجه شحّ التمويل وغياب التنسيق، ما يجعل الوصول غير عادل. تقول منسّقة حماية الطفل ريم فرينة: "من دون نظام حماية مركزي، ستحصل أسر على مساعدات كثيرة، وأخرى لا يصلها شيء. والأطفال الأكثر هشاشة هم الأقل وصولًا".

وتظهر مبادرات متخصصة مثل صندوق غسان أبو ستة للأطفال التي تنقل الإصابات البالغة للعلاج خارج غزة، لكنها، كما يشير تقرير المرصد، تخفف الألم ولا تغيّر الواقع. يتابع المختص أبو قمر أنّ "المبادرات مهمة، لكنها ليست بديلًا عن دولة منهارة أو منظومة دولية متراجعة".

ويشير مختصون إلى ثلاث مسارات مركزية للتعافي، الرعاية الصحية والنفسية طويلة الأمد، والتعليم الطارئ، إذ انقطع أكثر من 660 ألف طفل عن المدرسة، فيما توضح الخبيرة جون-هاكون شولتز أنّ الطفل الذي ينقطع لعامين يدخل "حالة محو أمية". أما المسار الثالث إدارة موحّدة للتمويل، لأنّ التشتّت يجعل الأضعف هم الأقل استحقاقًا للدعم، كما تشير فرينة.

ومع أنّ هذه المبادرات تحاول ترميم جزء من الفجوة، فإنّ حجم الانهيار، في الجسد، والأسرة، والغذاء، والاقتصاد، يفوق قدرة أي جهة منفردة. يرسم مشهد الأطفال في قطاع غزة اليوم صورة جيل يعيش خارج حدود الطفولة، في انتظار تعافٍ حقيقي، لا مجرد إسعاف للحظة الألم.