كبار السن يستبدلون غرف الجلوس بـ "جروبات العائلة"

كبار السن يستبدلون غرف الجلوس بـ "جروبات العائلة"

من أزهار صباح الخير، إلى عشرات البرقيات الحزينة والمشاهد المؤثرة تصل في يوم واحد عبر مجموعة العائلة، والتي تذكر بمناقب الراحلين من أفراد العائلة الذين ارتقوا خلال عامين من الحرب على غزة.  

عشرات الرسائل التي تدفع أفراد العائلة رجالاً ونساءً وبخاصة كبار السن، إلى تعديل جلستهم، أثناء تلقيهم عناوين خاطفة لمشاهد مبكية ودعوات بالرحمة والمغفرة للراحلين، والتي تنتقل بين الهواتف بسرعة البرق.

وبدلاً من أن كانت جروبات العائلات في غزة من مساحة للترفيه والتندر وتحديد مواعيد المناسبات العائلية، أصبحت أشبه بمأتم إلكتروني يبث فيه ذكرى الوفاة والإصابات.

اللافت في الأمر أن أكثر المتفاعلين مع هذه البرقيات اليومية، هم كبار السن والذين تقدر نسبتهم 5% من مجمل السكان في غزة، فيما من المفترض أن فئة الشباب تمضي وقتًا أطول في تصفح تلك الجروبات. 

غير أن الأرقام تكشف انقلابًا في هذا التصور، إذ يفيد استطلاع لمركز "بيو" أن 45% من المراهقين يعتقدون أنهم يمضون وقتا أطول مما ينبغي على هذه المنصات، ما يشير إلى تزايد انسحابهم من الفضاء الرقمي ومحاولتهم تقييد استخدامهم له. 

في المقابل يتقدم كبار السن إلى الواجهة الرقمية بشكل لافت، إذ تكشف بيانات هيئة الاتصالات البريطانية في تقريريها 2024 عن أنّ من تجاوزا الخامسة والستين يمضون نحو ثلاث ساعات يوميًا على الانترنت، أي أكثر من المعدل العام البالغ ساعتين وعشرين دقيقة. عملياً هناك نوع من الانقلاب في دور الأجيال. فما الذي دفع إلى هذا التحول، وكيف يمكن قراءته من الناحية النفسية على كبار السن في قطاع غزة؟.

يقول عبد الله سليم (63 عاماً)، وهو يتمتع بروح شبابية عالية رغم ما طاله من آلام الحرب على غزة، إنه يواظب على استخدام منصة واتساب كمساحة لمعرفة آخر الأخبار وخصوصا مجموعة العائلة، غير أن هذه المساحة تحولت بفعل الحرب إلى مساحة حزن ودعاء للشهداء الذين فقدوا خلال عامين. 

وعلى الرغم من كون تلك الجروبات تزيد من عمق الحزن بداخله، لكنه حريص على استخدامها بشكل يومي، ويقول إنه يقضي يوميا بحدود ساعتين إلى ثلاثة عبر منصات التواصل بما فيها واتساب وتيلجرام. وفي كثير من الأحيان يحاول التخلص من الحزن عبر بث أدعية أو مشاركتها مع أفراد عائلته، أو التواصل مع أصدقائه الذين فرقت بينهم ظروف النزوح.

إذا نظرنا إلى منصات التواصل من حولنا والفئات التي تستخدمها، تفيد الأرقام بأن المنصات الحديثة مثل تيك توك وسنابتشات وانستغرام مستخدمة أكثر بين الشباب. في ين يستخدم فيسبوك ويوتيوب وواتساب وتيلجرام، أكثر بين الفئات الأكبر سناً. وأطلقت العديد من التقارير على فيسبوك تسمية "منصة كبار السن" وهو ما تؤكده أرقام الأبحاث. يشبه الأمر ما يحصل في البيوت، الأهل يقضون وقتهم في غرفة الجلوس، بينما الأولاد في غرفهم. فيسبوك بالنسبة إلى الشباب هو بمثابة الصالون الذي يجلس فيه الأهل، لذلك يفضلون الابتعاد عنه. 

ورغم أن معرفة كبار السن بكيفية التعامل مع منصات التواصل كانت تبدو آخر ما يمكن توقعه، اكتشف هؤلاء طريقهم إليها. 

وتعتبر السيدة سماح عبد الواحد (66 عامًا) والتي عملت لنحو ربع قرن في سلك التعليم، أن كبار السن ليسوا معزولين عن العالم، وأن من حقهم اكتشاف التطبيقات الحديثة بما في ذلك تيك توك وانستغرام وفيسبوك وتويتر وتيلجرام. 

وقالت عبد الواحد وهي جدة لنحو تسعة أحفاد، لا ينقصنا الخبرة حتى نكتشف هذه التطبيقات ومن ثم نقرر ما هو الأنسب لنا، لكنني في حقيقة الأمر أفضل مجموعات واتساب للتفاعل مع العائلة، وكذلك التيلجرام من أجل معرفة اخر المستجدات والأخبار، خصوصا في ظل التوترات الأمنية الحاصلة في قطاع غزة.

وأوضحت أن هذين التطبيقين على وجه الخصوص، يعتبران مناسبين إلى حد كبير نظرا لمحدودية الوصول إلى الانترنت بسبب البنية التحتية المدمرة، فالتمكن من الاشتراك في حزمة الانترنت الشهرية عبر الهاتف الشخصي، يمكنها من البقاء على اتصال مع العالم الخارجي، على عكس مثلا يوتيوب الذي يحتاج إلى انترنت فائق السرعة من أجل المشاهدة.  

من زاوية نفسية ينجذب كبار السن إلى المنصات الرقمية بسبب إحساس متزايد بالوحدة، تظهر الإحصاءات أن علاقاتهم الاجتماعية الفعلية تتلقص مع التقدم في العمر، خصوصا في ضوء دمار البنى التحتية وانعدام سبل العيش الكريم. ما دفع جزء كبير منهم إلى التعويض عبر الفضاء الافتراضي. وقد وجدوا ضالتهم من خلال الدردشة على سبيل المثال عبر منصتي واتساب وتيلجرام، ليحافظوا على صلتهم بالعائلة. فيكرر المستخدم الأكبر سنا الدخول إلى المنصة بحثا عن التفاعل، ويستخدم فيسبوك ومجموعات واتساب للحفاظ على صلته بالعائلة والأصدقاء. تشمل هذه الظاهرة أولئك الذين يعيشون في الخيام منفصلين عن جيرانهم في الأحياء المدمرة، مما يقتضي اعتمادا أكبر على الشابة.

ووفقاً لدراسة بعنوان: "مساهمة الانترنت في الحد من العزلة الاجتماعية لدى الأفراد بعمر 50 عامًا، وما فوق، يظهر أن استخدام الانترنت يلعب دورًا أساسيا في التخفيف من الشعور بالعزلة لدى كبار السن. شملت الدراسة 67 ألف شخص أعمارهم فوق الخميسين في 17 دولة أوروبية، وأظهرت أن 31.4% من غير المستخدمين للإنترنت يعانون عزلة اجتماعية عالية، مثابل 12.9% ممن يستخدمونه بانتظام.

لو أخذ بالحسبان العوامل الاجتماعية والاقتصادية والصحية التي يمر بها كبار السن في غزة، فهذا يعني أن مساحة التفاعل على جروبات العائلة والأصدقاء بالنسبة لكبار السن هي طوق نجاة من الغرق في العزلة والتشتت، وبخاصة أن الحزن قد طال معظمهم إما لفقد أبناء أو أزواج، أو أحفاد، أو لخسائر اقتصادية لحقت بهم بما في ذلك فقدان المسكن الذي يعد رمزا أساسيا للشعور بالأمان.

يرجع الاخصائي النفسي محمد مهنا، اهتمام كبار السن باستخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي، إلى مجموعة من الأسباب، يأتي في مقدمتها  البحث عن "جسر العبور النفسي" نحو العالم الخارجي.

وقال مهنا في سياق حديثه لآخر قصة، كبير السن في غزة يعيش تحت وطأة الحرب والنزوح والحصار منذ سنوات وهذه الحرب لم تكن ذات أعباء مادية فقط، بل كانت نفسياً أيضاً، هنا تأتي هذه التطبيقات كوسيلة لتعويض الحرمان من الخروج للمشاركة في اللقاءات الاجتماعية والزيارات العائلية. فمن خلالها يستطيع الجد أن يرى أحفاده في الشتات، ويسمع أخبار إخوته في الخارج، ويشعر أنه ما زال جزءاً من نسيج عائلي ممتد رغم الحدود.

إلى جانب ذلك، يرى المختص النفسي أن سببًا آخرًا يدفع كبار السن لاستخدام الانترنت منها مواجهة "الوحدة الوجودية" في ظروف صعبة، خصوصا أن الكثير من كبار السن في غزة فقدوا أقرانهم بسبب ظروف الحرب. وتشير التقديرات إلى أن نسبة كبار السن من عدد الأشخاص الذين قتلوا خلال الحرب بلغ 7%. 

وقال مهنا: "التطبيقات أصبحت وسيلة لخلق شبكات اجتماعية بديلة (..) مجموعات العائلة على الواتساب، وقنوات التيلجرام التوعوية والإخبارية، كلها أصبحت بديلاً عن جلسات السمر التقليدية التي أصبحت صعبة بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية" حسبما قال.

يتضح مما سبق أن هناك حاجة بالنسبة لكبار السن تتعلق بإعادة تعريف الهوية والهدف، في مرحلة الشيخوخة، يشعر الإنسان بشكل طبيعي بتراجع دوره الاجتماعي. لكن في غزة، حيث المجتمع يعيش حالة طوارئ دائمة، يبحث كبار السن عن طرق جديدة للمساهمة، فعبر التطبيقات، ينقلون الحكمة والأدعية والأذكار اليومية، يشاركون المعلومات المفيدة، يدعمون الأبناء معنويًا، وهذا يعطيهم شعورًا بالاستمرارية.