يُشكّل واقع الدعم النفسي في بيئة نزاعٍ مستمرة كقطاع غزة واحدًا من أكثر التحديات خطورة أمام استعادة طاقة وحيوية أكثر من مليوني إنسان يواجهون ضغوطًا نفسية قاهرة جرّاء حربٍ متواصلة منذ عامين.
ومع ذلك، يواصل المختصون النفسيون عملهم في تقديم الدعم لمختلف الفئات المجتمعية، بما فيها الأطفال والنساء وذوو الإعاقة وكبار السن. لكن هل يمتلك هؤلاء المختصون – بوصفهم جزءًا من هذه البيئة المتأزمة – المناعة النفسية اللازمة لمواصلة هذا المشوار الشاق والطويل؟
ولكي لا تبدو القضية فلسفية، إذ لا يمكن عمليًا سؤالُ طبيبٍ أثناء عمله: "هل تستطيع أن تمارس عملك؟"، فإن واقع الحال يشير إلى أن قطاع "الدعم النفسي" يخوض التجربة منذ نحو ثمانية عشر عامًا على الأقل، بحكم الصراعات المتكررة التي خلّفت تداعيات عميقة على الصحة النفسية لسكانٍ كانوا يعيشون على مساحة تبلغ ثلاثمائة وخمسة وستين كيلومترًا مربعًا، فيما يعيشون اليوم على نصف هذه المساحة تقريبًا بين الركام والخيام.
وفي حقيقة الأمر، يواجه المختصون النفسيون المأساة الإنسانية ذاتها التي يواجهها الناس. فكيف يمكن لأخصائي نفسي أن ينتقل من خيمة نزوحه إلى خيمة دعمٍ نفسي حاملاً في جيبه رزمة أمل يوزّعها على الأطفال واليافعين؟ وهل تستطيع مختصّة يكابد أطفالها الجوع أن تُعين نساءً أخريات على التعبير عن مأساتهن؟
وسط أنقاض منزلها في حيّ التفاح بغزة، تجلس سلمى (اثنتان وثلاثون عامًا)، وهي أخصائية نفسية، تحاول تقديم الدعم لطفلة فقدت عائلتها في القصف، بينما هي نفسها ما تزال تكافح لمواجهة كوابيسها بعد فقدان شقيقها.
وتقول سلمى بصوتٍ مرتجف: "كيف أطلب من طفلة أن تثق في المستقبل وأنا أشك في وجود مستقبل؟ كيف أعالج صدماتهم وأنا أعاني من الصدمة نفسها؟".
ووفقًا لتقرير حديث صادر عن منظمة "أنقذوا الأطفال"، فإن غالبية أطفال غزة بحاجة ماسّة إلى الدعم النفسي؛ إذ يعاني تسعة من كل عشرة أطفال من اضطراب ما بعد الصدمة، فيما يُظهر خمسة وتسعون بالمئة منهم علامات القلق والاكتئاب.
ويوضح أحمد عبد الله (39 عامًا)، وهو باحث في المجال النفسي، المعضلة التي يعيشها المختصون قائلاً: "نحن لسنا بمنأى عن المعاناة؛ فكل أخصائي نفسي هنا فقد قريبًا أو منزلاً أو صديقًا. في الحقيقة، نحن نقدّم الدعم ونحن ننزف".
ويضيف: "قد تنقطع جلسة العلاج النفسي بسبب القصف، أو انقطاع الكهرباء، أو لأن المعالج نفسه يحتاج إلى البحث عن مأوى لأسرته".
أجرينا استطلاعًا لآراء نحو عشرة مختصين يعملون في المجال النفسي بقطاع غزة للتعرف إلى قدرتهم على تقديم الدعم، فوجدنا فجوةً هائلة بين الاحتياجات المتزايدة والخدمات المتاحة. إذ يشير المختصون إلى أنهم يواجهون معاناة مماثلة لمعاناة الناس: فقدان أقرباء من الدرجة الأولى، ونزوح، وفقدان المأوى، وغير ذلك. ومع كل ذلك، يواصلون أداء عملهم رغم غياب أي تعزيز خارجي يمكّنهم من الاستمرار بفاعلية وجودة.
وبعد المعاينة الميدانية ومسح الأنشطة النفسية التي تقودها المنظمات المحلية والدولية في غزة والمنشورة على صفحاتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يبدو أن غالبيتها تعتمد على أنشطة الدمى، خصوصًا في مراكز الإيواء.
وتفتقر كثير من الأنشطة إلى دراسة حالات الأطفال وتحديد احتياجاتهم الملحّة، وتبدو في معظمها أنشطة عامة لا تتيح مساحة كافية للتدخل المباشر، مثل الجلسات الفردية.
وتفيد تقديرات المختصين بأن نسبة الأطفال الذين يتلقّون دعمًا نفسيًا مباشرًا لا تتجاوز 15% من إجمالي التدخلات، التي تعتمد غالبًا على أنشطة الرسم والتشكيل بالطين والموسيقى وألعاب الدمى.
ويشير المختصون الذين استُطلعت آراؤهم إلى أن السبب الرئيسي لذلك هو تدمير معظم المراكز الصحية التي كانت يُعتمد عليها سابقًا، بما في ذلك مقارّ المنظمات العاملة في هذا المجال.
ويؤكد المختصون أن البرامج الحالية تركز على الإسعافات الأولية النفسية لا على العلاج المتخصص.
تحديات تواجه جودة الرعاية
تقول الأخصائية النفسية هدى (28 عامًا): "نعمل في ظروف لا إنسانية؛ فقد أجلس مع طفل في خيمة مكتظة محاولةً إجراء جلسة علاج بينما أصوات القصف تدوي حولنا. كيف نطبق النظريات العلمية في مثل هذا الجحيم؟".
وتضيف: "نحتاج إلى برامج متخصصة تتناسب مع واقعنا، لا نماذج مستوردة من مجتمعات مستقرة. ففي كثير من الأحيان لم أستطع التعامل مع أطفالي أنفسهم عندما أصيبوا بالفزع نتيجة قصفٍ قريب".
وتؤكد هدى أن المختصين النفسيين في غزة يمتلكون القدرة على ممارسة عملهم، لكنهم يحتاجون أيضًا إلى الدعم، قائلة: "يجب توفير برامج دعم للأخصائيين أنفسهم، وتطوير نماذج علاجية تراعي استمرار الصدمات المتعددة".
ويتقاطع ما تقوله هدى مع ما ترويه سماح عبد اللطيف (27 عامًا): "هناك آلاف الأطفال يحتاجون إلى الدعم، بينما لا تصل أيدينا إلا إلى بضع مئات منهم".
وتضيف: "نحن ننزف نفسيًا في كل جلسة؛ فأكثر من تسعين بالمئة من الأطفال والنساء الذين نتعامل معهم يعانون من القلق والاكتئاب، ونحن نعاني معهم ولا نملك حصانة كافية لمواجهة هذا التحدي".
وانطلاقًا من إدراك هذا التحدي، يعمل مركز "علاج العقل والجسم" على دعم وتعزيز قدرات المختصين النفسيين من خلال التدريب مع مجموعة من الخبراء الدوليين.
كيف يمكن اكتساب المهارة؟
وعلى مدار ثمانية أسابيع، تمكن المختصون المشاركون في البرامج التدريبية من اكتساب فائدة حقيقية. إذ يشير مصعب، وهو مُيسِّر جلسات في المركز، إلى أن التدريب الذي تلقّوه يعدّ من أهم البرامج التي يحتاجها المختصون، لأنه جمع بين المعرفة النظرية والمهارة العملية في التعامل مع اليافعين، خاصة في البيئات الصعبة والحساسة، مع مراعاة احتياجاتهم النفسية والعاطفية.
وأوضح المُيسِّر مصعب أن التدريب مزج بين العقل والجسم والمشاعر، وأن هذا الدمج يجعل المشرف والميسّر النفسي أكثر قدرة على ضبط ذاته وفهم سلوك ومشاعر الأطفال، مع التركيز على تمارين التنفس والسيطرة على المشاعر؛ لأنها تساعد المشاركين على أن يكونوا نموذجًا للهدوء والاتزان.
وتذهب المُيسِّرة نور إلى الاتجاه ذاته، مشيدةً بهذه التدريبات التي تعينهم على مواصلة عملهم بكفاءة أكبر. وقالت: "أنا ممتنّة لهذا التدريب مع الفريق الدولي للتعامل مع الأطفال في أوقات الأزمات، وقد أكسبنا خبرةً في أساليب تزيد من تركيز الأطفال وانتباههم عبر تمارين مختلفة".
وعبّرت عن شكرها للفريق الدولي على هذه الفرصة، متمنيةً الحصول على المزيد من التدريبات لتطوير مهاراتها وخبراتها في التعامل مع الأطفال واليافعين في مناطق النزاع.
ووفقًا لإفادات المشاركين، فقد خاض الفريق خلال ثمانية أسابيع تجربة تدريبية عميقة مكّنته من تبنّي ممارسات حديثة في جلسات العقل والجسم، وتطبيق تقنيات تضمن بيئة أكثر أمانًا ودعمًا للأطفال واليافعين.
وبات الفريق اليوم أكثر استعدادًا لفهم احتياجات الأطفال ومساندتهم بطرق فعّالة تساعدهم على التعافي والنمو.
وتُجسّد الطفلة تالا عبد اللطيف (11 سنة) أثر هذه البرامج؛ إذ فقدت والدها ووالدتها وشقيقتها الصغرى، وكانت تعاني من عصبية مفرطة وخوف شديد واعتزالٍ لصديقاتها. وتقول إن مجموعة العقل والجسم أصبحت بالنسبة لها عائلة جديدة.
وقالت الطفلة تالا بهدوء واتزان: "ساعدتني مهارات العقل والجسم على التعامل بلطف، وتغيّرت نفسيتي، وصرت أهتم بدراستي وتحسّنت درجاتي… وأكثر شيء إيجابي تعلمته هو مهارة المواجهة الحكيمة؛ فعندما أشتاق لأسرتي التي فقدتها، أستشعر وجودهم وأتحدث إليهم".
وأضافت مبتسمة: "تعلمت كيف أحافظ على جسمي، وما هي اللمسات السيئة واللمسات الحسنة، وتجنب زيارة المنزل المهدّم لأنه قد يحتوي على مخلفات قد تنفجر وتشكل خطرًا على حياتي وحياة الأطفال الآخرين".
ولأن الصحة النفسية طريقنا نحو السلام الداخلي، فلا بدّ أن تبني المؤسسات العاملة في هذا المجال نظامَ دعمٍ مستدامًا في بيئةٍ الجميعُ فيها – بمن فيهم المختصون – ضحايا.


