في الغالب كانت تتبعثر الجوارب إما أسفل سرير أو في سلال الغسيل. وكان ذلك يحدث أزمة داخل البيت ويترتب عليه أحياناً تأخر الأطفال عن المدرسة، وتستشيط الأمهات غضباً من هذه المنغصات شبه اليومية.
في المقابل كانت ظاهرة اختفاء الجوارب تثير الضحك أحياناً لشكل ومظهر الفردة اليتيمة في القدم، لكنها أضحت اليوم مصدر حزن ورمز للمعاناة الإنسانية، في قطاع غزة لاسيما بعد التدهور الاقتصادي الذي ألحقته الحرب على مدار عامين بالسكان.
يواجه أطفال غزة الشتاء الذي يزور القطاع هذه الأيام، بابتسامة حزينة في ظلّ الحرمان من الملابس والتي من الأصل أن يحصلوا عليها عن طريق المساعدات، لكنها في كثير من الأحيان تضل طريقها إلى الأسر الأشد فقرًا.
يرتدي الطفل أمجد سليم (6 سنوات) فردة جورب واحدة ذات لون أحمر يبرز منها أبهام قدمه اليمنى، بينما يحاول أن يبني بيتاً من الطين أمام خيمته المقامة في مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة.
يجيب الفتى عن سؤال: ماذا تفعل حين تشعر بالبرد، بالقول "لدينا غطاء واحد أختبئ أنا وأخي بداخله". أمجد واحد من بين 881,000 طفل نازح في قطاع غزة، وفقاً لتقرير حديث لـمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، يعيشون أوضاعاً إنسانية صعبة مع اقتراب الشتاء.
الجورب الضائع: من الفلسفة إلى المأساة
في عالم آخر، يطرح عالم الاجتماع الفرنسي جان كلود كوفمان في كتابه "فلسفة الجوارب" أسئلة وجودية حول الجورب الضائع الذي "يتحول تحت السرير إلى جوارب يتيمة تثير الضحك والغضب". لكن في مخيمات غزة، أضحت هذه الجوارب ترفاً، حيث يعيش ما يزيد عن 1.7 مليون نازح في ظروف بالغة القسوة، حسب آخر إحصائيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
تقول أم محمد سعادة (42 عاماً) وهي تعلق غسيلاً مهترئاً على حبل عُقدت أطرافه على أوتاد الخيمة: "في الماضي، كنا نضحك على الجوارب المنفردة. اليوم، أصبحنا نبكي على أقدام أطفالنا العارية".
عائلة سعادة التي نزحت من بيتها في شمال غزة في ديسمبر تعيش في خيمة لا تقي برد الشتاء القادم، في ظل ظروف اقتصادية صعبة حيث تجاوزت نسبة الفقر 81.5% من السكان، وفقاً للبنك الدولي.
تتفاقم الأزمة مع ارتفاع معدلات البطالة التي وصلت إلى 70%، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، مما يحرم العديد من العائلات من أبسط مقومات العيش الكريم، حيث لا تملك غالبية الأسر الكلفة الاقتصادية لتغطية احتياجاتها الأساسية من ملبوسات أو أغطية أو فراش.
رغم وصول بعض المساعدات الإنسانية، إلا أنّ توزيع الملابس الشتوية يكتنفه الغموض. يقول موظف في إحدى الجمعيات المحلية طلب عدم الكشف عن هويته: "هناك تضارب في المصالح ومحسوبية في توزيع المساعدات، بعض العائلات تتلّقى مساعدات تفوق حاجتها، بينما لم يحصل آخرون عليها رغم الحاجة الماسة لها".
ويضيف الموظف وهو مراقب على عملية التوزيع: "الكثير من كشوفات المستفيدين تشمل أناسًا غير ذي احتياج، ومن الواضح أن تفاصيل التوزيع تخضع لاعتبارات أخرى، وفي تقديري الشخصي فإنّ نحو 45% من المحتاجين الحقيقيين لا يصلهم الدعم الكافي".
في إحدى مدارس النزوح بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تجلس الطفلة سلمى وهي نازحة في ربيعها الثاني عشر، تحاول إصلاح جوربها الصوفية الممزق بإبرة وخيط رفيع.
"لم تفِ أمي بوعدها في شراء جوارب جديدة بدل هذه البالية"، تقول الطفلة التي فقدت والدها في الحرب الأخيرة. فيما تقول الأم إنها لا تملك رفاهية شراء الجوارب ولا حتى لباس مخمل يحمي صغارها الخمسة من البرد، لاسيما بعد فقدت الأسرة المعيل الوحيد.
عبر ماكنة حياكة متواضعة غرب مدينة غزة، يحاول أبو أحمد (55 عاماً) إعادة تدوير الملابس المستعملة. "غالبية السكان يعتمدون على تدوير ملابسهم من الكبار للصغار، أما الجوارب المقطعة والممزقة فهي مهنة الأمهات فهن يجدن تقطيبها"، يقول ذلك ضاحكا.
يضيف الرجل الذي فقد مصدر رزقه في بيع الملبوسات خلال الحرب، واتجه إلى مهنة الخياطة: "من خلال هذه المهنة يمكنني قياس مستوى رفاهية الأفراد (..) غالبية السكان لا يملكون رفاهية شراء ملابس جديدة رغم دخول ملبوسات مستوردة بعد عامين من توقف الاستيراد نتيجة الحصار، ولذلك يلجئون إلى تدوير الملابس القديمة، أو الشراء من البالة بوصفها أقل سعراً".
مع بدء انخفاض درجات الحرارة إلى ما دون 15 درجة مئوية، يحذر خبراء الأرصاد من أن الشتاء القادم سيكون الأقسى على سكان القطاع. وتناشد المنظمات الدولية المجتمع الدولي لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، حيث تشير تقديرات برنامج الأغذية العالمي إلى أن 63% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
وفي ظلّ محدودية وصول المساعدات، تشير التقديرات المحلية إلى أن السكان بحاجة إلى نحو مليون قطعة شتوية قبل نهاية نوفمبر الحالي، لكن لم تحصل المؤسسات التي تسهم في تقديم الإغاثة سوى على 15% من هذا العدد.
بينما يستمر الأطفال دون سن الـ18 البحث عن دفء مفقود، تتحول "الجوارب اليتيمة" من مجرد ظاهرة منزلية إلى رمز لإنسانية مهدرة، وكلما اختفت الجوارب تظهر المأساة بصورة جلية.


