رذاذ أقوى من الرصاص: المطر يهدد حياة النازحين

رذاذ أقوى من الرصاص: المطر يهدد حياة النازحين
رذاذ أقوى من الرصاص: المطر يهدد حياة النازحين

تتشابك أصابع الخمسينية أم محمد الرضيع فوق الأرض الترابية، تحاول أن تُسوّيها بيديها المرتعشتين قبل أن تهطل الأمطار. ترفع رأسها نحو السقف المصنوع من قماشٍ ممزق يتسلل منه الضوء والهواء البارد، فيما يلتف حولها ستة من أحفادها الصغار تحت بطانية بالية، يتقاسمون ما تبقّى من دفء أجسادهم الهزيلة. في خيمتها ببلدة الزوايدة وسط قطاع غزة، تستعد لشتاءٍ آخر يلوّح ببرودته، بعدما سلبتهم الحرب بيتهم الدافئ وحوّلت الأمان إلى حلمٍ بعيد.

تقول السيدة بصوتٍ يختلط فيه الخوف بالإنهاك: "الشتاء على الأبواب، ونحن لم نستعد بعد. كل قطرة مطر تخطر في بالي كأنّها رصاصة. الفجوات في الخيمة ستكون بوابة للبرد، وسيتبلل فراشنا القليل. لا نخاف المطر فقط، بل ما يحمله من وجعٍ يذكّرنا بما فقدناه."

تتنهد أم محمد وهي تُحدّق في سقف خيمتها الواهن، كأنّها تستشعر قسوة موسمٍ لم يبدأ بعد. تشعر أن البرد هذا العام مختلف، قاسٍ مثل الحرب التي سلبتهم كل شيء. في السنوات الماضية، كانت العائلة تعود إلى بيتها بعد الاعتداءات العسكرية المحدودة، تزيل الغبار وتواصل الحياة، أما الآن فبيتها يرقد تحت الأنقاض، والخيمة لا تقيهم شيئًا. 

أكثر ما يثقل صدرها هو نظرات الخوف في عيون أحفادها، حين تسألها حفيدتها الصغيرة اليتيمة إن كان سقف الخيمة سينهار عليهم كما انهار بيتهم، ولا تجد الأم المكلومة جوابًا تطمئن به قلب الطفلة.

تعكس معاناة أم محمد مأساةً أوسع في القطاع؛ فبحسب تقدير أممي بالاستناد إلى صور الأقمار الصناعية، نحو 81% من المباني في غزة تضرّر حتى وقف إطلاق النار في 11 أكتوبر 2025، فيما قدّر فريق المأوى تضرّر/تدمير نحو 282 ألف وحدة سكنية. ووفق الإحصاء الفلسطيني، سُجّل تضرّر 190 ألف مبنى، بينها أكثر من 102 ألف مبنى مهدّم بالكامل، مع نحو 330 ألف وحدة سكنية متضرّرة. أما في مدينة غزة وحدها، فتشير تقارير الأونروا إلى أن 83% من البُنى طالها الضرر حتى أكتوبر 2025. 

إلى جانب هذا الخراب الهائل، وبالرغم من توقف إطلاق النار، إلا أنّ الشتاء الحالي يأتي بلا أيّ تدابير رسمية تضمن حماية النازحين. فلا كرافانات وُفِّرت، ولا خطط طوارئ وُضعت، ولا مساعدات كافية وصلت إلى مراكز الإيواء، ما ترك آلاف العائلات النازحة في خيامٍ هشّة تواجه البرد والمطر بوسائل بدائية لا تصمد أمام أولى العواصف.

وفي ظلّ غياب أي استجابة رسمية فعّالة، تبدو الجهات الأممية -رغم كونها جزءًا من المنظومة الرسمية للخدمات- عاجزة عن تعويض هذا الفراغ. فوفقًا لتقرير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" رقم (192) الصادر في 13 أكتوبر 2025، وفّرت الوكالة منذ أكتوبر 2023 بعض خدمات المياه والصرف الصحي في الملاجئ ومناطق النزوح غير الرسمية، لكنها خدمات محدودة للغاية ولا ترقى إلى مواجهة حجم الأزمة أو الحد من تفاقمها، إذ تؤكد الوكالة نفسها أن الاحتياجات ما تزال "هائلة" وسط شحّ الموارد.

في مدرسةٍ تحوّلت إلى مركز إيواء بمحافظة دير البلح وسط قطاع غزة، يجلس أبو حسن إسليم (40 عامًا) على حافة درجٍ إسمنتي بعيونٍ باهتة ووجهٍ أنهكته الأيام، بعد نزوحه الأخير من مدينة غزة. تُحيط به جدران صفٍّ مدرسيٍّ باهت الطلاء، تتدلّى على نوافذه أغطيةٌ رُكّبت على عجل لتسدّ البرد والغبار. يراقب أطفاله وهم يلعبون بقطعٍ مكسّرة من البلاستيك قرب حقائب الإغاثة، ويحاول تهدئتهم بعد أيامٍ ثقيلة أعقبت فقدان منزلهم بالكامل.

يقول الرجل الذي غيّرت عذابات الحرب ملامحه بصوتٍ منخفض: "لا شيء يجهزك لما يحدث فجأة. المنزل الذي بنيناه بأيدينا صار أنقاضًا في دقائق، وأطفالي لم يفهموا كيف فقدوا عالمهم كله بهذه السرعة."

يحاول أن يخفي ارتجاف يديه، ثم يتابع بصوتٍ متهدّج: "أرى الخوف في أعينهم كل يوم. أحيانًا يبكون بلا سبب. في الليل، يتشبثون بي كأنّ أصوات الرياح قذائف. الآن مع اقتراب البرد، أشعر أنهم لن يحتملوا الأمطار والرطوبة كما تحملوا فقدان بيتهم. كل صوتٍ من المطر أو الرعد يذكّرهم بالقصف ويعيدهم إلى تلك اللحظة".

وليس اسليم وحده من يعيش هذا القلق المتجدد مع اقتراب الشتاء، فالمشهد يتكرر في آلاف الملاجئ المؤقتة المنتشرة في أنحاء القطاع. ويؤكد تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في 16 أكتوبر 2025 أنّ معظم سكان غزة يعيشون اليوم في ملاجئ غير مناسبة، ما يعرّضهم لظروف شتاء قاسية، مع توقعات بأمطار غزيرة ورياح قوية تزيد من المخاطر الصحية والنفسية للنازحين.

وفي أحد تلك الملاجئ المكتظة في عموم محافظات قطاع غزة، تتكرر الحكاية بوجهٍ آخر. هناك تحيط سارة الأشرم (34 عامًا) بأطفالها الثلاثة داخل خيمة مهترئة. فقدت زوجها في الحرب، وأصبحت وحدها مسؤولة عن حمايتهم وتأمين الحدّ الأدنى من الدفء والطعام.

تقول: "أعرف أن الشتاء قادم، وكل سنة أشعر بالرعب ذاته، لكن هذه المرة أخاف أكثر. الخيمة رقيقة، والمطر والبرد سيقتحمان حياتنا. أسمع الريح تتسلل من الشقوق كل ليلة، وأفكر كيف سنقضي الأيام المقبلة حين يبدأ المطر فعلًا. لا شيء يحمينا سوى الأمل وبعض الأغطية التي بالكاد تقي الصغار من البرد."

تتذكر الأشرم شتاء العام الماضي: "كان قاسيًا جدًا، لم نتمكن من تدفئة أنفسنا. أصيب طفلي أحمد بنزلة برد شديدة، وكانت الليالي طويلة ومرعبة. لا أريد أن يتكرر ذلك، لكن الخوف يسبق المطر هذه المرة."

هذا الخوف من البرد ليس مجرّد إحساسٍ عابر، بل يترجم نفسه في الواقع إلى مأساةٍ إنسانية تتكرّر كل شتاء. فقد شهد الشتاء الماضي وفاة ما لا يقل عن ثمانية مواليد في مخيمات النزوح نتيجة البرد ونقص التدفئة، بحسب تقارير صادرة عن الأونروا واليونيسف، فيما أُصيب الآلاف بنزلات برد حادة وسط غياب الرعاية الصحية وتردّي ظروف الإيواء. 

وبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية (WHO) الصادر في 10 سبتمبر 2025، بلغ سوء التغذية وانتشار الأمراض المعدية في غزة أعلى مستوياته منذ بداية النزاع قبل عامين، فيما تُفاقم الظروف المناخية القاسية، كالبرودة والأمطار، الوضع الصحي والنفسي للسكان بشكلٍ خطير.

ما تخلّفه برودة الطقس في الأجساد، تتركه أيضًا في النفوس على شكل خوفٍ دائم وقلقٍ متراكم. توضح المختصة النفسية د. سارة عبد الرحمن أنّ "الشتاء هذا العام ليس مجرد موسم، بل محفز صدمة جماعي، يذكّر النازحين بفقدان الأمان. الأطفال يربطون صوت المطر بصوت القصف، وعائلاتهم يشعرون بالعجز التام."

وتضيف: "نشهد ما يمكن تسميته بـ (قلق ما قبل الشتاء، وأعراض اكتئاب البرد) حتى قبل انخفاض درجات الحرارة. الأطفال يُظهرون أعراضًا جسدية نتيجة الصدمة، مثل التبول اللاإرادي ونوبات الهلع عند المطر والخوف من الظلام."

وتؤكد عبد الرحمن أنّ النساء يتحملن العبء الأكبر، إذ يزداد القلق والاكتئاب مع عجزهن عن توفير الدفء والاحتياجات الأساسية لأطفالهن وسط هذه الظروف الكارثية على قاطني الخيام.

ولا تقتصر تدّاعيات هذا الواقع على البعد الإنساني والنفسي، بل تمتد لتشمل خطرًا بيئيًا متفاقمًا يهدد حياة النازحين وصحتهم على حدٍ سواء. يقول الخبير البيئي نزار الوحيدي إن الدمار الواسع الذي خلّفته الحرب لم يُحوّل المدن إلى ركام فحسب، بل أطلق في البيئة مواد سامة يصعب احتواؤها.

يردف الوحيدي: "أعقد ما تواجهه غزة الآن ليس فقط الكم الهائل من الركام، بل المواد الملوِّثة الناتجة عن الأسلحة الخطيرة التي تتفاعل مع سيول الأمطار، ما يزيد من تلوث البيئة وخطرها على خيام النازحين".

ويوضح أن المياه التي تغمر الشوارع في مواسم المطر تحمل معها خليطًا من الرماد والمعادن الثقيلة وبقايا الذخائر، لتتسرب إلى الآبار الضحلة ومناطق السكن المكتظة، مسببة تلوثًا طويل الأمد. ويضيف أن هناك ما يزيد على 60 مليون متر مكعب من المياه العادمة لا تجد اليوم شبكة صرف صحي، ما تسبب بأزمة بيئية معقدة هي السبب الأول في انتشار مئات بؤر الأمراض الوبائية في القطاع.

ويحذّر الوحيدي من أن تكرار هذه الدورة في الشتاء الحالي سيجعل من كل موجة مطر تهديدًا مزدوجًا؛ فهي تزيل الركام لكنها في الوقت ذاته تنقل السموم إلى خيام النازحين ومناطق إقامتهم بين الأنقاض. لذلك يطالب بالإسراع في توفير مساكن جاهزة تتحمل الظروف القاسية، مؤكدًا أن أي تأخير يعني أن البرد لن يهاجم الأجساد وحدها، بل البيئة التي تُبقيهم على قيد الحياة.

يترقّب النازحون شتاءً جديدًا لا يحمل لهم سوى مزيد من القلق. بين خيامٍ تتهالك تحت المطر وأرضٍ مثقلة بالركام والبرد، يقفون في مواجهة فصلٍ آخر من الخوف والصبر. فشتاء غزة لا ينتظر، والبرد فيه لا يفرّق بين جسدٍ أنهكه النزوح وأرضٍ أنهكها الدمار.