الحرب تُطفئ معاصر الزيتون بغزة وتقتل ذاكرة الزيت

الحرب تُطفئ معاصر الزيتون بغزة وتقتل ذاكرة الزيت

يقف أشرف أبو راس (30 عامًا) أمام معصرة الزيتون المغلقة منذ ثلاث سنوات، كما لو أنه يقف أمام ذاكرة غائرة في الغبار. يمدّ يده ببطء، يمرّر كفّه على طبقة رمادية كثيفة تراكمت فوق الآلات المعدنية، فتتطاير ذراتها في الهواء، كأنها تذكّره بمواسم كانت تضجّ بالحركة والضوء. 

في المكان الذي كان يعجّ ذات يوم بأصوات الماكينات وعبق الزيت الطازج، لا يُسمع اليوم سوى الصمت. الأبواب الموصدة تشهد على موسم ثالث بلا عصرٍ ولا زيت، بعدما عطّلت الحرب كل شيء، فيما تحوّلت المعصرة الأخرى التي كانت تملكها العائلة في بيت حانون شمالي القطاع إلى أطلال.

عائلة أبو راس تعمل في عصر الزيتون منذ أربعينيات القرن الماضي، مهنة نُقشت في الذاكرة قبل أن تُكتب في السجلات. يحدّق الشاب في المكان بعينين يغمرهما الحنين ويقول: "لم تكن المعصرة يومًا عملًا موسميًا فحسب، بل هي جزء من عاداتنا وتقاليدنا، وذاكرة طفولتنا. يعزّ علينا توقفها، فلا أشم رائحة الزيتون النفاذة التي كانت تملأ المكان كل خريف".

كانت تلك الرائحة، كما يصفها، "علامة البداية"، إيذانًا بقدوم موسم الرزق واللقاء العائلي حول صهاريج الزيت الذهبي. لكن اليوم، اختفت تلك العلامة، وباتت الآلات الباردة تذكيرًا بما كان.

خسرت العائلة نحو 400 ألف دولار بعد تدمير معصرتها في بيت حانون شمالي القطاع، ويستبعد أشرف العودة إلى العمل في الموسم المقبل، فالأراضي الزراعية تحوّلت إلى رماد، والأشجار التي نجت بحاجة إلى سنوات طويلة لتستعيد عافيتها. يقف على باب المعصرة كمن يودّع إرثًا عائليًا لم يعد له مكان في هذا الخراب.

لم تكن معاناة عائلة أبو راس سوى مرآة لما أصاب قطاع الزيتون بأكمله، إذ حُرم آلاف المزارعين والعاملين من الاستعداد للموسم الثالث على التوالي. الحرب لم تترك للأشجار وقتًا للتعافي، فدمّرت آلاف الدونمات ومعظم المعاصر الأربعين، ولم ينجُ منها سوى ست فقط، تاركةً أثرًا عميقًا في واحد من أهم قطاعات الزراعة في غزة، الذي يشكّل أكثر من نصف مساحة البستنة الشجرية، وقرابة 27% من الإنتاج النباتي في غزة.

في أقصى جنوب القطاع، في رفح، يتكرر مشهد الخراب ذاته بلونٍ أكثر قتامة. فتحي قشطة (69 عامًا) يجلس أمام صورٍ التقطها له ابنه لمعصرته المدمّرة، صورٌ تفيض بالغبار والدخان أكثر من الضوء. بدأ قشطة رحلته مع الزيتون عام 1971، حين كانت المعاصر تضجّ بالعمل، ثم افتتح معصرته الخاصّة، واستورد عام 2000 آلةً حديثة من إيطاليا، كانت الأولى من نوعها في غزة. 

يتحدث بصوتٍ متعب: "نزحنا تحت وقع القصف والموت يترصدنا، نجونا بأرواحنا، لكن تركنا كل شيء خلفنا، فحوّلته الحرب إلى أنقاض. بلغت خسارتي 450 ألف دولار، ودُمرت كل بناياتي السكنية. رأيت صور المعصرة بعد الدمار، وحزنت على ما آل إليه الحال من رخاء إلى شدة وألم".

يُغمض عينيه قليلًا، كما لو أنه يحاول استعادة أصوات العمل وضحكات العمال التي كانت تملأ المكان، ثم يقول: "كانت رائحة الزيتون تسبقنا إلى البيوت، واليوم تسبقنا رائحة الهواء المختلط بالركام."

المهندس الزراعي في وزارة الزراعة الفلسطينية، أشرف أبو دقة، يصف ما حدث لقطاع الزيتون جرّاء النزاع بأنه "تغيير جذري أعاد القطاع عقودًا إلى الوراء". 

ويقول إنّ ما جرى لا يقتصر على تراجع الأرقام، بل على انهيار منظومة إنتاج كاملة كانت تشكّل جزءًا من هوية المزارع الفلسطيني ومصدر رزق لعشرات الآلاف من العائلات. فالمساحة المزروعة بالزيتون انخفضت بنسبة 91%، وعدد الأشجار تراجع من مليوني شجرة إلى 150 ألفًا فقط، بعدما كانت تمتد بظلالها على معظم المناطق الزراعية في القطاع. كما هبط الإنتاج من 40 ألف طن إلى 3 آلاف طن فقط، في تراجع كارثي بلغت نسبته أكثر من 92%.

ويضيف أبو دقة أن البنية التصنيعية لم تسلم أيضًا، إذ تقلّص عدد وحدات التصنيع من عشر وحدات إلى واحدة فقط، وانخفضت خطوط العصر من 68 خطًا إلى 15 خطًا، بينما تراجعت الطاقة الإنتاجية من 150 طنًا في الساعة إلى 25 طنًا فقط. ويرى أن هذه الخسائر المتراكمة جعلت من الصعب استئناف الإنتاج في المدى القريب، لأنّ إعادة تأهيل القطاع تحتاج إلى سنوات من العمل الممنهج.

ويؤكد أن الوزارة وضعت خطة للتعافي تبدأ باستيراد أشتال الزيتون وزراعتها في الأراضي المتضررة، وتوفير مصادر ريّ مستدامة لها في ظلّ شُح المياه، مشيرًا إلى أنّ هذه العملية تمتد بين ثلاث إلى خمس سنوات على الأقل قبل أن تعود الأشجار إلى الإثمار، وهو ما يعني أن قطاع الزيتون في غزة يعيش اليوم مرحلة "إحياء بطيء"، يتطلّب جهدًا مضاعفًا وصبرًا طويلًا لإعادة الحياة إلى الأرض التي أرهقتها الحرب.

أما اقتصاديًا، فيقول المختص أحمد أبو قمر إنّ تداعيات تدمير قطاع الزيتون تتجاوز حدود الأرقام الجامدة، فهي تمسّ عصب الحياة اليومية لعشرات الآلاف من العائلات في غزة. فالمسألة ليست مجرد تراجع في الإنتاج، بل انهيار في منظومة اقتصادية كانت تشكّل أحد أعمدة الدخل الريفي ومصدر استقرارٍ للأمن الغذائي المحلي.

قبل نشوب الحرب في أكتوبر 2023، بلغت قيمة الإنتاج السنوي نحو 54.3 مليون دولار، وهو رقم كان يُسهم بفاعلية في الدورة الاقتصادية المحلية، سواء عبر تصدير الزيت إلى الأسواق الداخلية والخارجية أو من خلال تشغيل آلاف العمال في الزراعة والعصر والتعبئة والنقل. اليوم، لم يعد لهذا الرقم وجود، بعدما تلاشى الإنتاج تقريبًا في معظم الأراضي والمعاصر، ما جعل قيمة القطاع "غير محددة" لأول مرة منذ عقود.

ويوضح أبو قمر أنّ الحرب غيّرت ملامح السوق بالكامل. فكيلو الزيتون الذي كان يُباع بخمسة شواكل فقط، أصبح يُباع بثلاثين شيكلًا نتيجة ندرة المحصول، فيما قفز سعر لتر الزيت من 500 شيكل إلى 2500 شيكل، أي بزيادة تُقارب خمسة أضعاف. هذا الارتفاع الجنوني لا يعكس فقط تراجع الكميات المنتجة، بل أيضًا تضاعف تكاليف التشغيل والنقل والتخزين، إذ أصبح توفير الكهرباء والوقود وقطع الغيار لمعاصر الزيتون مهمة شبه مستحيلة.

ويضيف أن الإنتاج المخصص للعصر انخفض من 35 ألف طن إلى ثلاثة آلاف فقط، أي أن السوق فقد أكثر من 90% من قدرته الإنتاجية. هذا التراجع أدّى إلى انهيار منظومة الاكتفاء الذاتي التي كانت تميّز غزة في إنتاج الزيت والزيتون؛ فبعد أن كانت تُحقق اكتفاءً بنسبة 100%، أصبحت تغطي بالكادّ 8% من احتياجاتها، ما جعلها تعتمد على واردات محدودة بأسعار مرتفعة لا يستطيع معظم السكان تحمّلها.

انعكست هذه الأرقام القاسية على حياة الناس اليومية. فزيت الزيتون، الذي كان يُخزن في كل بيت فلسطيني كرمزٍ للوفرة والبركة، أصبح اليوم من الكماليات التي يعجز كثيرون عن شرائها. ومع غيابه، اختفى أيضًا صحن الزيتون الذي كان يتربّع كواحدٍ من أركان المائدة الغزّاوية صباح مساء، رمزًا بسيطًا للثبات والعادة والذاكرة. تراجعت تلك الطقوس اليومية التي كانت تجمع العائلة حول الزيت والزيتون، لتحلّ محلّها موائد ناقصة الطعم والدفء.

كما أدّى الدمار إلى فقدان الآلاف مصادر رزقهم؛ إذ انخفض عدد المزارعين بنسبة 91%، والعاملين في المعاصر والمزارع بنسبة 95%، بينما تراجعت نسبة النساء العاملات بنحو 93%. وراء هذه النسب تختبئ أيدٍ مجعّدة اختلطت بطين الأرض ورائحتها، وجباهٌ سمرتها شمس الحقول؛ أيادٍ كانت تملأ الحقول حركةً وضحكًا في مواسم القطاف، قبل أن يخفت صخبها تحت ثقل الركام. لم يكن التراجع مجرّد بطالة واسعة، بل فقدان شبكة اجتماعية كاملة كانت تنبض بالحياة حول الزيت والزيتون وتؤمّن الدخل الموسمي لآلاف العائلات الغزّاوّية.

ويشير أبو قمر إلى أنّ تدمير قطاع الزيتون لم يترك أثره على الاقتصاد الزراعي فحسب، بل على البنية الاجتماعية برمّتها، إذ كان موسم الزيتون مناسبة تعبّر عن التماسك العائلي والاقتصادي، تجمع العمال والأسر في موسم الحصاد والعصر. اليوم، تحلّ محلّ تلك المشاهد مشاعر الفقد والحنين، ويغدو الزيت الذي كان يرمز للبركة والخصب، شاهدًا على جفاف الأرض وضيق الحال.

لكن خلف هذه الخسائر الممتدة تتوارى حقيقة أعمق، إذ لا يتعلّق الأمر فقط بانهيار قطاعٍ زراعي، بل بانتهاكٍ لحق الإنسان في الغذاء والبقاء، وهو ما يجرّمه القانون الدولي الإنساني بوضوح، إذ يحظر استهداف مصادر الغذاء أو تدميرها خلال النزاعات المسلحة، باعتبارها أساس بقاء المدنيين وركيزة من ركائز الحماية الإنسانية. 

يصف المحامي يحيى محارب ما حدث بأنه انتهاك صارخ لهذه القواعد، موضحًا أن تدمير الأراضي الزراعية لا يُعد خسارة اقتصادية فحسب، بل جريمة تمسّ حق السكان في الحياة والغذاء. فوفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الإضافي الأول، يُمنع المساس بالمزارع والمحاصيل باعتبارها ممتلكات ضرورية لبقاء المدنيين، فيما يصنّف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية استهداف الأراضي الزراعية وتخريبها كجريمة حرب تستوجب المساءلة والمحاسبة.

ويشير محارب إلى أنّ هذا النوع من الانتهاكات لا يدمّر الإنتاج الزراعي فقط، بل يفاقم آثار الحصار ويقوّض قدرة السكان على الصمود في وجه الكارثة الإنسانية الممتدة في قطاع غزة.

لم تعد رائحة الزيت تعبق في البيوت الغزية كما اعتاد الناس كل خريف، ولا تعزف المعاصر سيمفونيتها القديمة التي كانت ترافق مواسم القطاف. غاب صوت العمال، وحلّ مكانه صمت ثقيل ورائحة الركام. تبدو الأرض كأنها تنعى مواسمها التي ضاعت، وماضٍ لم يعد سوى ذكرى في ذاكرة الغزيين.