لغة العنف... الدرس الأول للحرب في طفولة غزة

لغة العنف... الدرس الأول للحرب في طفولة غزة

تصرخ آلاء سلمان (32 عامًا) على طفلها قصي بعدما هاجم ابنَ عمه بعنفٍ شديد حتى ازرقت عينه من الضرب، ثم أطلق ألفاظًا نابية التقطها من أصدقائه الجدد. لم تصدق الأم ما رأته؛ فقصي الذي لم يتجاوز العاشرة لم يكن يومًا عدوانيًا.

لكن منذ أشهر، بدأت تلاحظ عليه نوبات غضب متكررة تتفاقم كلما سمع دوي قصف قريب، فيُفرغ شحناته العصبية في أشقائه وأقرانه أثناء اللعب. تدريجيًا، انقلب سلوكه من الهدوء والانطواء إلى العدوانية المقلقة التي أربكت والدته.

تقول سلمان: "لم أعد قادرة على تحمل ما يفعله. جرّبت كل الأساليب التربوية لتقويم سلوكه الذي تغيّر فجأة، حتى تواصلت مع مختص نفسي يدلّني كيف أتعامل معه". آخر المواقف المحرجة كان حين رفض إفساح المجال لسيدة في المواصلات، وعندما حاولت والدته تهدئته، انفجر غاضبًا ووجه الشتائم لها وللسيدة أمام الجميع.

تواجه آلاف العائلات في قطاع غزة تغيّرات حادّة في سلوك أطفالها بعد سنوات الحرب التي شوّهت مفهوم الطفولة وبدّلت أنماط التربية. منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أغلقت المدارس أبوابها وانقطع نحو 600 ألف طالب عن التعليم، وتحوّلت كثير من المدارس إلى مراكز إيواء للنازحين. الأطفال الذين كانوا يتعلمون القراءة والكتابة أصبحوا منشغلين بجمع الحطب والماء والطعام وتوفير بعض الدخل، ليحملوا أعباءً تفوق أعمارهم.

نضال زيدان (38 عامًا) يعترف بأنّه فقدَ السيطرة على تقويم تصرفات أولاده الثلاثة. يقول: "قبل الحرب كنت أستطيع ضبط سلوكهم، لكن منذ نزوحنا وسكننا في خيمة صغيرة، لم أعد أقدر على ذلك. يخرجون صباحًا ويعودون مساءً، وكأنّ لا سلطة لي عليهم. انشغلت بالظروف التي فرضتها الحرب وبالبحث عن الطعام والماء، فظهرت لديهم فجأة بوادر التمرد ونقص الاحترام".

سحر خليل (24 عامًا) واجهت صدمة مشابهة حين سمعت طفلتها الوحيدة، إيلين، تشتم شقيقها بلفظ بذيء لم تعرفه من قبل. تقول: "تسمرت في مكاني، وسألتها بهدوء من أين تعلمت هذه الكلمة؟ أجابت ببراءة: من طابور الماء". 

إيلين، ذات السبعة أعوام، لم تعرف من العالم سوى الحرب. كلماتها اليومية محدودة: "التكية، الطابور، الخيمة، الماء".  هذا هو عالمها الصغير المختزل بالحاجة والخوف.

تحاول والدتها اليوم استعادة ما تبقّى من علاقتها بها. تجلس معها، تحاورها، وتحدّ من اختلاطها بأطفالٍ تأثروا بسلوكيات الحرب. لكنها تعترف بأنّ الجهد الفردي لا يكفي، وأنّ الأطفال بحاجة ماسّة إلى برامج دعم نفسي تساعدهم على تجاوز الصدمة قبل أن تتحوّل إلى جزء من شخصياتهم.

هذه التحولات السلوكية ليست معزولة عن سياق أوسع، فالمؤسسات الدولية تحذر بدورها من آثار عميقة تمتد إلى جيلٍ كامل. وتشير بيانات حديثة لمنظمة اليونيسف (UNICEF) إلى أن ما يزيد عن 50 ألف طفل في غزة قُتلوا أو جُرحوا منذ اندلاع الحرب، وأن جميع الأطفال تقريبًا عاشوا أحداثًا صادمة تركت آثارًا عميقة في سلوكهم ونموهم النفسي. 

كما وثّقت المنظمة مقتل 322 طفلًا وإصابة 609 آخرين خلال عشرة أيام فقط من تجدد القصف في مارس/آذار 2025، في دلالة على حجم العنف الذي يحيط بحياتهم اليومية.

وتضيف تقارير المنظمة أنّ أكثر من 95% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 1 و14 عامًا في غزة تعرّضوا لشكلٍ من أشكال الإساءة النفسية أو العقاب الجسدي، سواء داخل الأسرة أو في محيطهم اليومي. هذه البيئة المشبعة بالخوف والدمار، كما يصفها مختصون نفسيون، جعلت العنف يتحوّل إلى لغة بقاء لا إلى انحراف سلوكي فحسب؛ إذ يتعلم الأطفال أن القوة وسيلة للحماية، وأن السيطرة على الآخرين تمنحهم شعورًا مؤقتًا بالأمان وسط عالم متداعٍ فقد كل أشكال الطمأنينة.

بدورها، حذّرت دراسة مشتركة من جامعة كامبريدج ووكالة الأونروا من أنّ خسائر التعليم في فلسطين "باتت فادحة وواضحة"، مرجحة أن ينتج عنها جيل ضائع على المدى الطويل. وقال فيليب لازاريني، المفوض العام للأونروا، إن أكثر من 600 ألف طفل في غزة "يعانون من صدمة نفسية عميقة".

الآثار السلوكية التي تركتها الحرب على أطفال غزة عميقة ومتجذّرة، وفق ما تؤكد المختصة التربوية حكمت المصري. تقول: إنّ "بيئة الحرب أثرت بعمق على النمو السلوكي والتربوي للأطفال"، فالصدمات الناتجة عن فقدان الأمان خلقت خوفًا دائمًا وقلقًا مستمرًا، والحرمان من التعليم أفرز أنماطًا مثل العدوانية والانطواء واضطرابات ما بعد الصدمة.

توضح المصري أنّ الحرب حرمت الأطفال من طفولتهم الطبيعية؛ فالكثير منهم شَهِد مقتل أقارب أو فقدَ منزله، وتحوّلت هذه التجارب إلى ذاكرة جماعية مثقلة بالخوف. في الأحياء المدمّرة، لم تعد ساحات اللعب موجودة، واستُبدلت المدارس بالخيام، وصار الأطفال يرفعون جالونات الماء بدل الكُتب. هذا الواقع، كما تقول، خلق "نمطًا حياتيًا قائمًا على الصراع من أجل البقاء"، فغاب النظام والروتين الضروريان للشعور بالأمان.

وترى أنّ تصاعد العنف بين الأطفال انعكاس لبيئة تحلّ مشاكلها بالقوة، إذ يسعى الطفل للسيطرة على الفوضى من حوله بالعنف كآلية دفاع نفسي، مشيرة إلى أن العدوانية طالت الفتيات أيضًا عبر الانعزال أو التحدي. كما أن انقطاع التعليم جعلهم أكثر عرضة لاكتساب سلوكيات سلبية في مخيمات يسودها قانون الأقوى.

ومما لا شك فيه أنّ العائلة تبقى حجر الأساس في تقويم السلوك بأساليب تربوية بديلة كالتعزيز الإيجابي والعواقب الطبيعية، مع المتابعة النفسية المتخصصة عند الحاجة. بحسب المصري التي تحذر من أنّ: "الأسَر نفسها متعبة، والأمهات يواجهن ضغوطًا نفسية ومعيشية قاسية، ما يقلل من قدرتهن على المتابعة اليومية. نحن أمام جيل كامل يتشكل في بيئة طوارئ، بلا استقرار ولا مساحة للعب أو التعبير، وهذا أخطر ما يمكن أن يعيشه الطفل في سنوات نموه الأولى".

وتشير المصري إلى أنّ هذه التحولات لا تقتصر على السلوك الظاهر، بل تمتدّ إلى عمق النفس البشرية للطفل، حيث يتحوّل القلق والخوف المزمنان إلى أنماط من العنف والانطواء واللامبالاة. ومع تفاقم الضغوط المعيشية وانشغال الأسر بتأمين احتياجاتها الأساسية، تتراجع الرقابة الأبوية ويزداد الانفلات السلوكي. 

من هنا، يرى المختص النفسي عرفات حلس أن مظاهر العنف المتفشية بين الأطفال ليست سوى امتداد لهذه التراكمات النفسية، وأنّ الصدمة اليومية تحوّلت إلى لغة غير واعية يعبّرون بها عن الخوف والضغط الداخلي.

وقد أدّى انقطاع الأطفال عن التعليم المستقر إلى ظهور سلوكيات عنيفة وتراجع في قيم الاحترام، وفقًا لحلس الذي أفاد أنّ العنف أصبح من أكثر المظاهر النفسية خطورة بعد الحرب، إذ تحوّل إلى طريقةٍ للتعبير عن الخوف والضغط الداخلي.

يقول: "البيئة الاجتماعية تبدّلت كليًا، فالعلاقات اليومية للأطفال صارت قائمة على النجاة لا التعلم. العنف الذي نراه اليوم ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات نفسية وسلوكية بُنيت على الخوف وفقدان الضبط الاجتماعي"، مشيرًا إلى أن غياب المحاسبة وانشغال الأسر بمعاناتها اليومية جعلا الأطفال عرضة للتقليد والتأثر بالسلوكيات السيئة.

وعلى الرغم من أنّ المواثيق الدولية مثل اتفاقية اليونسكو وحقوق الطفل والإعلان العالمي لحقوق الإنسان تكفل حق الطفل في بيئة آمنة وسوية، فإنّ الواقع في قطاع غزة يجعل تلك النصوص بعيدة عن التطبيق.

هنا، لم تقتصر شظايا الحرب على الأجساد، بل تسللت إلى النفوس فشوّهت معاني الطفولة وأربكت قواعد التربية. ومع كل قصف، تتسع الفجوة بين الأهل وأبنائهم، ويترسخ جيل جديد اكتسب من الحرب لغته وسلوكياته. لكن هذا الواقع لا يعني الاستسلام. فالتعافي ممكن إن وجد الأطفال من يحتويهم ويوجههم، لتُدفن حينها السلوكيات التي زرعتها بيئة الحرب، وتُستعاد الطفولة المسروقة ولو بعد حين.