تجلس رحاب سعيد (59 عامًا) على سريرٍ معدني داخل غرفة ضيّقة في أحد مشافي مدينة غزة، تحاول أن تغيّر جلستها ببطء كي تخفف الضغط عن ظهرها المتعب. كانت قبل عامين تمشي في شوارع المدينة بخفة، لكن الحرب التي دمّرت البنية التحتية الصحية في القطاع غيّرت كل شيء. فبعد أن شخّصها الأطباء بـ "الانزلاق الغضروفي"، باتت كل خطوة معركة بين الألم والإرادة، وكل محاولة للنهوض اختبارًا جديدًا لجسد أنهكه المرض والحصار معًا.
منذ أن تعطّلت أجهزة الرنين المغناطيسي وتدمّرت مراكز التشخيص تحت القصف، لم تعد رحاب تخرج إلا للبحث عن مكان يمكنه مساعدتها في تحديد موضع إصابتها بدقة. لكن كل رحلة تنتهي بالإجابة ذاتها: "لا توجد أجهزة رنين مغناطيسي في غزة"، جملة تختصر مآلات حرب أنهكت النظام الصحي وحوّلت التشخيص الطبي إلى حلم بعيد المنال.
تقول وهي تبتلع حبة مسكّن: "أكثر من عام وأنا أعاني الألم المُبرح الذي يشتدّ في الليل ويحرمني النوم. أُوفّر المسكنات بأعجوبة، لكن مفعولها مؤقت وسريع. أودّ تحديد مكان الألم بدقة عبر جهاز التصوير، لكنه غير موجود هنا في غزة".
معاناة رحاب تتكرر في وجوه كثيرة داخل مستشفيات غزة. آلاف المرضى يعيشون الألم ذاته منذ عامين من الحرب، محاصرين بنقص الأدوية والمعدات، وبغياب الأجهزة التي تُعدّ أساس التشخيص الدقيق، وعلى رأسها جهاز الرنين المغناطيسي أحد أهم الأدوات التشخيصية الحديثة، والذي غيابه يترك فجوة هائلة في قدرة الأطباء على معالجة مرضاهم.
يحتاج هذا الجهاز يوميًا مرضى الأعصاب والدماغ والعمود الفقري والمفاصل والغضاريف، وكذلك المصابون بالأورام أو إصابات الحرب التي خلّفت شظايا داخل الأجساد يصعب تحديد موقعها دون تصوير دقيق.
ويُعدّ جهاز الرنين المغناطيسي تقنية متقدمة لا تُستخدم فيها الأشعة، بخلاف الأشعة المقطعية، إذ يعتمد على الموجات المغناطيسية لتصوير البُنى الداخلية للجسم بدقة عالية. كما يعتمد عليه الأطباء في تشخيص أمراض الأعضاء الداخلية مثل الكلى والقلب والكبد، ومتابعة التهاباتها أو تلفها، ما يجعل غيابه عقبة كبرى أمام التشخيص والعلاج، ويترك المرضى عالقين بين الألم والعلاج المجهول.
عاطف عامر (33 عامًا) أصيب في ركبته عندما أطلقت طائرة مسيّرة من نوع "كواد كابتر" رصاصة نحوه أثناء تفقده منزله في حي الشيخ رضوان، فغاص الألم في عظامه كما تغوص الشظايا في الجسد. خضع لعملية جراحية بعد الإصابة، لكن الألم لم يُغادره منذ ذلك اليوم، بل صار جزءًا من يومه، يقيّد خطواته ويذكّره بما فُقد.
قبل الحرب، كان عاطف مولعًا بالسباحة والمشي الطويل، يجد في الحركة راحته، وفي الرياضة توازنه النفسي. اليوم، لا يتحرك إلا متكئًا على عكاز، يسير ببطء ويغلب عليه شعور العجز الذي يضاعفه غياب التشخيص الدقيق.
يقول بمرارة: "عام ونصف وأنا أعاني من الألم. لا أعرف ما الذي يجري في ركبتي ولماذا لم أشفَ. الأطباء يريدون تصويرًا دقيقًا للأربطة والغضاريف، لكن الواقع الطبي مأساوي في غزة، وها أنا ما زلت أنتظر توفر جهاز الرنين المغناطيسي".
في مستشفى الرنتيسي غرب مدينة غزة، تنتظر منى عبد الهادي (42 عامًا) موعدًا لتصوير كتلة ظهرت في صدرها قبل أشهر. كان الأطباء يشتبهون بإصابتها بورم، لكن غياب أجهزة الرنين المغناطيسي جعل التشخيص مستحيلًا. تقول بصوت خافت: "أعيش بين خوفين؛ أن يكون ما في جسدي خطيرًا، وأن أموت من الانتظار قبل أن أعرف".
العجز الطبي في غزة لا يقتصر على غياب أجهزة الرنين المغناطيسي وحدها، بل يمتد ليشمل معظم أدوات التشخيص الأساسية التي يعتمد عليها الأطباء لتحديد طبيعة الأمراض بدقة. فالأشعة العادية والموجات فوق الصوتية وأجهزة التصوير الطبقي باتت تعاني هي الأخرى من الأعطال أو النقص الحادّ في العدد.
يقول زاهر الوحيدي، رئيس وحدة المعلومات في وزارة الصحة بغزة، إن القطاع يعاني انعدامًا كاملًا لأجهزة الرنين المغناطيسي، موضحًا أن سبعة أجهزة كانت موزعة سابقًا بين المستشفيات والعيادات، لكنها خرجت جميعها عن الخدمة بالكامل. هذا الغياب، كما يوضح الوحيدي، حرم المرضى من وسيلة التشخيص الأهم، لا سيّما في الحالات الدقيقة التي تمسّ الدماغ والأعصاب والعمود الفقري والمفاصل، حيث يصبح التصوير المغناطيسي ضرورة لا ترفًا.
ويضيف الوحيدي أنّ الأزمة لا تتوقف عند هذا الحدّ؛ فعدد أجهزة الأشعة المقطعية العاملة تراجع إلى سبعة فقط بعد أن كانت سبعة عشر قبل الحرب، بينما انخفض عدد أجهزة الأشعة الملونة من سبعة إلى جهازين، وكذلك أجهزة تصوير الثدي (الماموغراف) من سبعة إلى جهازين فقط.
وتكشف بيانات وزارة الصحة أنّ الأزمة أعمق من مجرد نقص في الأجهزة، بل تعكس انهيارًا تدريجيًا للبنية التحتية الطبية في القطاع.
ويؤكد الوحيدي أنّ الاحتلال يمنع دخول الأجهزة والمعدات الطبية بحرية إلى القطاع منذ ما قبل الحرب، مشيرًا إلى أنه لم يُدخل أي جهاز طبي جديد منذ عامين، بينما دُمّرت الأجهزة الموجودة نتيجة استهداف المشافي، ما أدى إلى انهيار شبه كامل في المنظومة الصحية.
لكن خلف هذا الواقع القاسي، يبرز قصور داخلي واضح في إدارة القطاع الصحي. فوزارة الصحة، لم تتمكّن من توفير بدائل أو تفعيل خطط طوارئ مؤقتة، سواء عبر الشراكات الإنسانية أو التنسيق مع المنظمات الدولية لإجراء الفحوص خارج المشافي المتضررة. بالإضافة إلى ضعف الصيانة، وسوء توزيع الأجهزة القليلة المتبقية، كلها عوامل فاقمت الأزمة وجعلت المرضى يدفعون الثمن مضاعفًا.
في هذا السياق، يجد الأطباء أنفسهم أمام تحدٍّ مهني وإنساني هائل. فغياب أجهزة الرنين المغناطيسي يجبرهم على الاعتماد على الكشف السريري أو الأشعة التقليدية، وهي أدوات محدودة لا تكشف التفاصيل الدقيقة لمدى تفشي المرض أو حتى طبيعته؛ مما يتسبب في تأخر في التشخيص، تعذّر في العلاج، واستمرار الألم إلى ما لا نهاية.
ووفق بيانات وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، هناك 20 ألف مريض بحاجة ماسة للسفر لتلقي العلاج في الخارج، منهم 18 ألفًا استكملوا إجراءات السفر لكنهم ما زالوا عالقين في غزة، بينما توفي 983 مريضًا أثناء الانتظار.
أما من الناحية القانونية، فالمشهد أكثر وضوحًا وحِدّة. فحرمان المرضى في غزة من الأجهزة الطبية والأدوية لا يمكن اعتباره مجرد تقصير إداري أو نتيجة جانبية للحرب، بل انتهاك صريح وممنهج للقانون الدولي الإنساني. فالقوة القائمة بالاحتلال، بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، تتحمل المسؤولية الكاملة عن توفير العلاج والرعاية الصحية للسكان المدنيين في الأراضي التي تسيطر عليها، بما في ذلك تأمين وصول الإمدادات الطبية دون عوائق.
توضح المحامية ماجدة شحادة أن المادة 55 من الاتفاقية تُلزم الاحتلال بتوفير الأدوية والإمدادات الطبية الضرورية، وضمان استمرار الخدمات الصحية بما يتناسب مع احتياجات السكان. كما تؤكد أن المادة 18 تحظر مهاجمة المستشفيات أو عرقلة عملها تحت أي ظرف، وتُلزم القوة المحتلة بحمايتها واحترام طواقمها الطبية.
لكن الواقع في غزة، كما تقول شحادة، يكشف عن نمطٍ متكرر من الانتهاكات سبق الحرب الأخيرة بسنوات طويلة. فمنع دخول الأجهزة الطبية الحديثة، وتأخير التصاريح الخاصة بإدخال قطع الغيار أو المواد المشعة المستخدمة في التصوير الطبي، أصبح سياسة دائمة تخنق النظام الصحي من الداخل.
وتضيف: "هذه القيود ليست فقط انتهاكًا قانونيًا، بل جريمة إنسانية عندما تُترجم إلى موتٍ بطيء لمرضى ينتظرون علاجًا يمكن إنقاذهم به لو أُتيح لهم جهاز أو دواء".
وتؤكد أنّ استمرار هذه الممارسات ينقل مسؤولية التدهور الصحي من خانة الكارثة الإنسانية إلى خانة المساءلة القانونية، إذ يُعدّ الحصار المفروض على القطاع شكلاً من العقاب الجماعي المحظور بموجب القانون الدولي. فحين تُمنع الأجهزة التشخيصية الحيوية من الدخول، لا يتضرر النظام الصحي فحسب، بل تُنتزع من المرضى أبسط حقوقهم في البقاء على قيد الحياة.
هكذا يعيش مرضى غزة بين وجعين: وجع المرض ووجع الحصار. لا أدوية كافية، ولا أجهزة طبية، ولا أفق قريب لانفراج الأزمة. فحتى بعد توقف الحرب، لم يطرأ أي تحسّن ملموس على واقع النظام الصحي المنهك، ولم تبدأ عملية إعادة الإعمار الطبي التي طال انتظارها. وفي أروقة المستشفيات المزدحمة، يتردّد سؤال واحد على ألسنة المرضى المنهكين: "متى سيتغيّر هذا الواقع؟ إلى متى سيظلّ العلاج مفقودًا؟ هل ستدخل الأجهزة الطبيّة إلى غزة؟ وهل سنشفى يومًا من آلامنا المبرحة؟".


