تسمم منهجي لمياه الشرب يهدد مستقبل غزة

تسمم منهجي لمياه الشرب يهدد مستقبل غزة
تسمم منهجي لمياه الشرب يهدد مستقبل غزة

بعد أن نزح أبو فتحي شبات (42 عامًا) إلى خيمة في دير البلح وسط قطاع غزة، حاول حماية النازحين في المخيم من العطش نتيجة عدم وصول شاحنات المياه المحلاة إلى المكان لبعد المسافة، فقام بحفر بئر بدعم من جمعية خيرية. لكن الأمل تحوّل إلى خطر سريعًا، إذ تسربت مياه الصرف الصحي المنتشرة بين الخيام إلى البئر، مخلطةً مياه الشرب. 

يقول أبو فتحي إن أبناءه وأطفال المخيم أصيبوا بأمراض جلدية ومعوية خطيرة، ونقل بعضهم إلى المستشفى لإجراء الفحوصات، التي أكدت وجود عدوى بكتيرية والتهابات حادة نتيجة شرب مياه ملوثة.

ولا تقتصر تدّاعيات أزمة تلوث مياه الشرب على حالات متفرقة؛ إذ يعاني القطاع بأكمله من تدهور شامل في البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، نتيجة القصف الإسرائيلي المستمر على الشبكات خلال الحرب (2023–2025)، وتدمير عدد كبير من الآبار، إضافةً إلى غياب الرقابة والفحوص اللازمة لضمان جودة المياه.

جمال أبو غالي (21 عامًا) أصيب بالتهاب في العظام نتيجة ارتفاع الأملاح في المياه، وأظهرت الفحوصات ارتفاعًا كبيرًا في بروتين CRP، ما يشير إلى التهابات خفية أجبرته على فقدان القدرة على المشي لأيام طويلة. 

يروي الشاب معاناته: "الوجع لا يترك لي فرصة للنوم، وعند العلاج الطبيعي ظننت أن الوضع بسيط، لكن الألم تفاقم وفقدت القدرة على الحركة بالقدمين". وقد أكّد الطبيب الذي تابع حالته في مستشفى العودة بالنصيرات وسط القطاع، أن الالتهابات ناتجة عن مياه ملوثة، وهو يتعافى تدريجيًا مع العلاج المستمر.

هذه المعاناة الإنسانية ليست سوى انعكاس سطحِي لكارثة بيئية أعمق، يحلّلها الخبير البيئي نزار الوحيدي بالقول: "الحالات الصحية المأساوية التي نشهدها، من أمراض جلدية ومعوية إلى التهابات العظام الحادة، ليست سوى العَرَض الأكثر وضوحًا لتسمم منهجي يضرب منظومتنا المائية بأكملها".

ويوضح أنّ انخفاض استهلاك المياه الصالحة للشرب من 120 مليون متر مكعب سنويًا إلى أقل من 100 مليون ليس مؤشراً على ترشيد، بل هو انعكاس لانهيار القدرة على الوصول لمصادر آمنة. 

ويقول: "ما يُوصف بـ تعافي الخزان الجوفي هو تعافٍ وهمي وقصير المدى، فهو لم يتحسّن بسبب تدخلات علاجية، بل لأن الناس لم يعودوا قادرين على استخراج المياه منه بالكميات السابقة، مما سمح لمستواه بالارتفاع مؤقتًا بينما ملوحته وتلوثه بالنيترات والبكتيريا في الارتفاع. نحن نواجه جريمة بيئية بطيئة، والنتيجة هي تسمم منهجي للأجيال. إنه تعافٍ بُنِي على خراب البنية التحتية وخراب صحة السكان".

كما يُشكِّل تغير المناخ وجفاف المنطقة ضغوطًا إضافية على مخزون المياه المحدود، ما يزيد هشاشة النظام المائي في غزة ويجعل السكان أكثر عرضة لأزمات المياه والتلوث.

ويحمّل الوحيدي المجتمع الدولي مسؤولية هذا الانهيار، معتبرًا أنّ "غزة تعيش تحت فرض تجربة بيئية قاسية بمعايير مزدوجة"، داعيًا إلى تدخل عاجل لا يقتصر على تقديم المساعدات الطارئة فحسب، بل يضع خطة شاملة لإعادة بناء البنية التحتية للمياه وفق معايير الاستدامة، والبدء بعملية تنظيف جذري للخزان الجوفي قد تستغرق عقودًا حتى لو بدأت اليوم.

تُشكِّل المسؤولية الدولية والإقليمية العمود الفقري للأزمة، لكن مختصين يشيرون، إلى أنّ تداعياتها كشفت عن إخفاق مؤسسي متراكم في الإدارة المحلية. فبلديات القطاع، رغم قيود الحصار والتمويل، لم تطور خطط طوارئ كافية، واعتمدت على حلول ترقيعية مع ضعف الرقابة على جودة المياه، ما غذى وهم "الحلول البديلة" دون معالجة التلوث الجذري. ومع الحرب، تحوّل هذا القصور إلى انهيار شامل، لتبدأ مرحلة إدارة الكارثة بلا أدوات أساسية.

رئيس بلدية المغازي، محمد مصلح، يقول إنّ الحرب خلّفت "آثارًا كارثية" على القطاعات البيئية، وعلى رأسها المياه والصرف الصحي. ويضيف: "قبل الحرب كانت 97% من مصادر المياه غير صالحة للشرب، واليوم باتت غير صالحة للاستخدام الآدمي أصلًا".

من أصل 284 بئرًا كانت تغذي بلديات القطاع، دُمّر 262 بئرًا بالكامل، ولم يتبق سوى 17% من الآبار العاملة، فيما تعاني البلديات من عجز حاد في تقديم الخدمات بعد تدمير شبكات نقل المياه. 

وللتخفيف من الأزمة، لجأت البلديات إلى تشغيل مضخات يدوية وغاطسات بديلة، لكن معظم الآبار الجديدة حُفرت في المناطق الغربية القريبة من الشاطئ، حيث تتداخل مياه البحر مع الخزان الجوفي -المصدر الرئيسي للمياه في غزة - الذي يعاني من تدهورٍ متسارع، فقد انخفض منسوبه بنحو 19 مترًا عن مستوى البحر؛ ما أدى إلى تسرُّب مياه البحر نحوه وارتفاع الملوحة بشكل حادّ.

ويشير مصلح عن انتشار حفر امتصاصية عشوائية على طول ساحل غزة، تُستخدم كحل يائس لتصريف مياه المجاري مباشرة في الأرض. وقد تفاقمت هذه الظاهرة بسبب النزوح الجماعي والاكتظاظ في المخيمات العشوائية، حيث اضطرت العائلات التي تعيش في الخيام إلى حفر هذه الآبار البديلة بأنفسهم، بعد تدمير محطات المعالجة وشبكات الصرف الصحي جراء القصف، وعجز البلديات عن تقديم بديل.

وقد أدّى هذا الوضع إلى تلوث مباشر للخزان الجوفي، حيث سجلت عينات المياه مستويات نترات تجاوزت 400 ملغم/لتر في بعض المناطق، أي ما يعادل ثمانية أضعاف الحدّ الآمن البالغ 50 ملغم/لتر الذي توصي به منظمة الصحة العالمية، مما يهدد بكارثة بيئية وصحية طويلة الأمد تصل إلى حد التسمم المائي البطيء لمصدر الحياة الأساسي في القطاع.

قبل الحرب، كانت حصة الفرد من المياه تقارب 82 لترًا يوميًا، مقارنة بتوصية منظمة الصحة العالمية البالغة 120 لترًا. بعد تدمير الآبار والشبكات، تراجعت الحصة إلى 15 لترًا يوميًا، بل إلى 3-5 لترات/يوم في بعض المناطق. ويشير مصلح إلى أن المواطنين في مخيمه يحصلون على المياه مرة واحدة أسبوعيًا لمدة لا تتجاوز ست ساعات، بعد أن كانت تصلهم كل عشرة أيام. 

ويضاف إلى شح الكمية تدهور النوعية، ففي مخيم المغازي وحده، فقدت 15 محطة تحلية صغيرة كانت موزعة في المساجد بعد تعرضها للقصف؛ ما اضطر السكان للاعتماد على المياه غير المحلاة. ويؤكد رئيس البلدية أنّ المياه المتوفرة في هذا المخيم قد تكون منخفضة الملوحة لكنّها أيضًا ملوثة ميكروبيولوجيًا؛ ما يشكل خطرًا صحيًا حقيقيًا.

أما في مدينة غزة، يصف المتحدث باسم البلدية، حسني مهنا، الأزمة بأنها "مُدمِرة"، موضحًا أن نسبة العجز في توصيل المياه تجاوزت 85%، إذ تصل المياه إلى 15% فقط من المدينة، عبر ما تبقى من 62 بئرًا من أصل 88، إلى جانب خط "ميكروت" الإسرائيلي الذي يزود المدينة بـ 15 ألف متر مكعب يوميًا لكنه غير مستقر ويتعرض للاستهداف المتكرر.

وأضاف مهنا أن البلدية اضطرت لإعادة تشغيل 16 بئرًا كانت مغلقة منذ سنوات بسبب ارتفاع ملوحتها ملوحتها إلى مستويات خطيرة، وذلك في محاولةٍ لتعويض النقص الحادّ في المياه. جاء هذا القرار رغم العلم بالمخاطر الصحية التي قد تسببها هذه المياه، وذلك في ظلِّ استحالة إجراء فحوصات الجودة في الوقت الحالي، بل إنّ إجراء تلك الفحوصات كان صعبًا حتى قبل الحرب؛ مما يثير تخوّفاتٍ كبيرة من أن تكون أزمة المياه الحالية قد تحوّلت إلى تهديدٍ صحي صامت لا يُعرف مدى خطورته.

تحوّلت مياه غزة من مصدر حياة إلى تهديد يومي للصحة العامة، بفعل تآكل البنية التحتية وغياب الرقابة. ولا يمكن احتواء الأزمة إلا عبر تدخل عاجل لإعادة بناء شبكات المياه والصرف وضمان الفحوص المنتظمة، لتحويل إدارة الكارثة المؤقتة إلى خطة إنقاذ حقيقية للأجيال القادمة.