يمسك الخمسيني محمود دياب بورقةٍ قديمةٍ اصفرّت أطرافها، احتفظ بها منذ سنواتٍ كانت فيها الحياة أكثر وفرة واستقرارًا. على الورقة جدولٌ بخط يده، تتوزع فيه خانات لأشهر العام، وبينها مربعٌ مظلل باللون الأصفر كُتب فيه: " 300 شيكل – ادخار".
كانت هذه الورقة تذكيرًا بعادة الادّخار التي واظب عليها أكثر من خمسة عشر عامًا، قبل أن تبددها الحرب الإسرائيلية التي امتدت لعامين (2023–2025) على قطاع غزة، قضت فيهم على كل ما جمعه دياب من تعب السنين. اليوم، يجلس في خيمةٍ سيئة الحال وسط القطاع يستعيد ذكرياته مع تلك الأيام التي كان فيها التوفير أسلوب حياة.
تجلس زوجته إلى جانبه، تسترجع معه الأيام التي كانا يقتطعان فيها القليل من المال كل شهر، وتذكر له الأشياء التي اشتروها من ذلك الادخار الشهري، وتبتسم معه بمرارة. يقول دياب: "كنا نوفر لأجل أولادنا، ونحرص على إتاحة كل شيء لهم، لكنّ الحرب قضت على كل شيء. خانة الادّخار في جدولي اختفت، وتحوّلت إلى ديون."
يردف: "اليوم، أصبح كل قرش مكرّسًا للطعام والماء، وحتى حفيدي أخذ حصالته عندما اضطررنا للنزوح، لكنها فارغة وبلا قيمة، مهملة بين الأشياء والكراكيب كأنّها ذكرى من زمنٍ بعيد."
كان دياب يعمل دهانًا، يشرف على طاقم من العمال في طلاء المنازل والمباني، لكن منذ اليوم الأول للنزاع، توقفت الورش وفقد مصدر رزقه الوحيد. اضطر لتغيير عمله وأصبح يبيع المواد الغذائية على بسطةٍ متواضعة أمام خيمته.
لم تعد كلمة "ادخار" جزءًا من حياة الناس في غزة. فمع الحرب والنزوح وغلاء الأسعار الهائل، لم يعد الراتب -إن وُجد- يكفي لشراء كيس طحين، بعدما خسر الكثير بيوتهم ومصادر رزقهم. هكذا اختفت فكرة الادّخار تمامًا من دفاتر العائلات، ولم تعد الحصالات الصغيرة تجد مكانًا لها على رفوف الخزائن التي تهدّمت جدرانها أو تركها أصحابها خلفهم.
تشير تقديرات قبل الحرب إلى أن متوسط الادخار الشهري للأسر في غزة كان يصل تقريبًا إلى 400–500 شيكل، استنادًا إلى متوسط الدخل المتاح ونسبة الادخار التقليدية التي كانت تتراوح بين 10 و20% من الرواتب الشهرية، أما اليوم فقد اختفت هذه العادة تقريبًا.
ارتفعت معدلات الفقر إلى 100%، وأصبحت معظم الأسر تعتمد على المساعدات الإنسانية للبقاء، فيما تجاوزت نسب البطالة 80%. كما أدّت ندرة السيولة النقدية وإغلاق البنوك إلى تفاقم الأزمة، واضطر كثيرون لبيع مقتنياتهم البسيطة لتأمين الغذاء والدواء، وهكذا تحوّلت ثقافة الادّخار القديمة إلى ذكرى بعيدة في واقعٍ لا يعرف سوى الكفاح من أجل البقاء.
خديجة صلاح (34 عامًا) كانت تعمل خياطة وتعتمد على دخلها لتأمين احتياجاتها. في الشهور الأولى من النزاع، احتفظت بمبلغ قدره خمسة آلاف شيكل كمدخرات للطوارئ، لكنها لم تصمد طويلًا. مع صدور أوامر الإخلاء القسري، اضطرت لاستخدام المبلغ كاملًا للنزوح من شمال القطاع إلى جنوبه.
تقول بحزن: "كنت أحب تنظيم مصروفاتي، ولدي مهارات عالية في الإدارة المالية، إذ كنت من البارعين في الادّخار المنتظم، لكن اليوم لا أستطيع توفير أي مبلغ، كل ما أكتسبه يُصرف على الفور، حتى أنني أصبحت غير قادرة على شراء احتياجاتي الأساسية."
أحمد نصار (47 عامًا) كان يدّخر من راتبه الذي يصل إلى 3000 شيكل مبلغ 500 شيكل شهريًا، يضعه في حسابه البنكي، وكلما تجمّعت لديه الأموال، يشتري قطعة ذهبية لزوجته. اليوم، يُمسك بآخر قطعة ذهبية اشتراها ويستعد لبيعها لشراء خيمة جديدة.
يضرب كفيه ببعضهما ويقول: "لقد أنفقت كل ما جمعته من مال وبعت مصاغ زوجتي بعد أن مررت بوعكةٍ صحية دفعتني لمصاريف طبية باهظة. واليوم، لم أعد قادرًا حتى على تأمين الطعام."
الأثر النفسي لفقدان الادخار صار واضحًا على العائلة؛ فالقلق المستمر يسيطر على حياتهم اليومية، والتوتر بين الزوجين أصبح ملموسًا، بينما يشارك الأطفال في إدارة ما تبقى من المال، ويساعدون الأهل في تخطيط لوجبة واحدة بالكادّ تكفي الأسرة، ما يجعلهم يفقدون إحساسهم بالأمان المالي منذ الصغر ويكبرون وهم يواجهون واقعًا اقتصاديًا صارمًا لا يعرفونه إلا من خلال معايشتهم اليومية للحرمان.
في بيتٍ آيل للسقوط وسط مدينة غزة، نتيجة آثار قصف سابق، تجلس المعلمة ولاء سعيد تُراجع مصروفاتها في نهاية الشهر لتكتشف عجزًا جديدًا يبلغ 800 شيكل. منذ بدء الأحداث في أكتوبر 2023، تغيرت معادلة مصروفاتها بالكامل، بعد أن كانت قادرة على الادخار نحو 200 دولار شهريًا.
تقول بحسرة: "لم يعد هناك أي بند للتوفير. أصبحت المسؤولة عن البيت بعد إصابة والدي، وأكاد لا أتمكن من تأمين الأساسيات بسبب المصروفات الجديدة والعمولات التي تلتهم نصف دخلي."
هذه المعاناة الفردية ليست معزولة؛ فهي انعكاس لما يعيشه معظم سكان قطاع غزة، حيث تتسارع الأسعار وتنخفض القدرة الشرائية، ويضطر الناس للتخلي عن أي محاولة للادخار تحت الظروف القاهرة التي يعيشونها منذ أكثر من عامين.
يعكس ارتفاع مؤشر الأسعار بنسبة 53.67% والانخفاض الحاد في القدرة الشرائية بنسبة 70.41% حجم الصدمة الاقتصادية التي ألمّت بالقطاع، فيما يعكس انكماش الاقتصاد بمعدل 82.5% مدى توقف النشاط الاقتصادي وتراجع الإنتاج المحلي. فما كان يكفي لشراء سلة غذائية أساسية قبل الحرب بات اليوم يكفي لنصفها فقط، والراتب لا يغطي سوى الحدّ الأدنى من الضرورات اليومية.
هذه الأرقام توضّح لماذا لم تعد فكرة الادخار ممكنة عمليًا، حيث يعاني 91% من السكان من انعدام الأمن الغذائي، مما يجعل الادخار حلمًا بعيدًا في حياة يومية تتجه كلها نحو تأمين الحدّ الأدنى من الاحتياجات.
المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر يؤكد أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أحدثت تغيرًا دراماتيكيًا في نظرة الناس إلى الادخار: "قبل الحرب، كانت الأسر قادرة على الادخار ولو بمبالغ بسيطة، لأن الدخل كان شبه ثابت، ولم يكن هناك استنزاف كبير أو ارتفاع حادّ في الأسعار.
اليوم، كل شيء تغير نتيجة تدّاعيات النزاع، فتكاليف المعيشة تضاعفت بشكلٍ غير مسبوق، وحتى جزء من المال يُستنزف في العمولات. وهكذا أصبح التركيز على تأمين قوت اليوم بدل التفكير في المستقبل.
ويضيف: "طول أمد الحرب غيّر آلية التفكير الاقتصادي لدى المواطنين. بعد أن كانت ثقافة الادخار جزءًا من حياتهم، أصبحت اليوم عبئًا نفسيًا لا يمكن تحمله في ظلّ فقدان كل مقومات الاستقرار المالي."
في غزة، كانت عادة الادخار أكثر من مجرد مال محفوظ؛ كانت وعدًا بالاستقرار والأمان. لكن الحرب قضت على كل شيء، والشيكل لم يعد رصيدًا للأمان، بل مجرد ورقة تمرّ من اليد إلى اليد لتأمين يوم واحد فقط، بينما تذوب الحصالات القديمة كالذكريات، تاركة أثرًا من الحنين والألم، ويظلّ الأمل وحيدًا، يئن تحت وطأة الغلاء والفقر والتشريد.


