كارثة جيل: أطفال غزة ينسون أبجديات التعليم

كارثة جيل: أطفال غزة ينسون أبجديات التعليم

الحروف تبدو لغزًا غريبًا بالنسبة لأمير، البالغ من العمر سبع سنوات. بعد عامين من الحرمان التعليمي، صار التعلم محاولة يائسة لالتقاط حلم بعيد؛ فالمدرسة كلمة غامضة، والصف الدراسي مكان لم يعرفه يومًا، بينما تحاول والدته، محاسن أبو صقر، أن تشرح له الفرق بين حرفيّ "سين" و"صاد" داخل خيمة نزوحهم في بلدة الزوايدة، وسط قطاع غزة.

تحدّق الأم في طفلها وهي جالسة على قطعة قماش مهترئة، تحاول توصيل المعلومة دون جدوى. تقول بصوت يملؤوه القلق: "ابني أمير لا يعرف الحروف، ولا يعرف شكل الصف أو السبورة. الحرب سلبت منه المدرسة، ولا أستطيع متابعة تدريسه في ظلّ هذه الظروف".

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر 2023 على قطاع غزة، لم يدخل أمير أيّ مدرسة سوى مرة واحدة في مركز تعليمي غير رسمي مؤقت استمر ثلاثة أشهر فقط. أما اليوم، يقضي وقته بين الوقوف في طوابير التكيّة والمياه، بينما يذوب حلمه البريء بالعودة إلى مقعد الدراسة.

في خيمةٍ أخرى، تتابع فداء أبو غالي طفليها فراس (10 سنوات) وبنتها بتول (8 سنوات) عبر هاتفها المحمول، حيث تُرسل الدروس عبر "الواتساب" وتملأ الامتحانات بنفسها، قائلة: "أنا التي أحلّ الواجبات وليس أولادي، أنا التي صرت الطالبة. ابني نسي الكتابة والقراءة، والحرب سلبت كل شيء".

كان فراس متفوقًا في دراسته قبل نشوب النزاع، أما الآن فحسب والدته بالكادّ يعرف الحروف الأبجدية. وتضيف بأسى: "حتى بتول لم تكمل العام التمهيدي في الروضة، لا تعرف الحروف ولا الأرقام. درست عام 2024 في مركزٍ مؤقت لمدة ثلاثة أشهر فقط، لكن ذلك لا يعوض التعليم النظامي والإلزام المدرسي".

التجربة نفسها يعيشها أطفال المواطنة منى حلس، وهي أم لثلاثة أطفال، تقول بمرارة: "أبنائي لا يعرفون الكتابة ولا الحساب، وحتى عند شراء احتياجاتهم لا يستطيعون العد. كل مرة نزحنا، ويضيع كل شيء من جديد."

تضيف حلس أن الأطفال لم يحصلوا على فرصة لتعلم أساسيات القراءة والكتابة والحساب منذ فترة طويلة، وأن انقطاع التعليم أثر على قدرتهم على اكتساب المهارات الأساسية التي يفترض أن يكتسبوها في أعمارهم. بالنسبة لها، مواجهة هذه الفجوات التعليمية أصبحت التحدي الأكبر، إذ يحتاج الأطفال الآن إلى بداية جديدة للتعلم من الصفر.

هؤلاء الأمهات ليسن حالات معزولة؛ فقصصهن مع أطفالهن تعكس واقع جيل كامل من الأطفال الذين خسروا طفولتهم الدراسية، حيث تحوّلت مدارسهم إلى مراكز إيواء، وخيامهم إلى فصول بديلة تكافح لتعويض ما فُقد من تعليم.

وفق بيانات وزارة التربية والتعليم بغزة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، هناك حوالي 660 ألف طفل في قطاع غزة حُرموا من التعليم للسنة الثالثة على التوالي بفعل الحرب. وقد تحوّلت مئات المدارس إلى مراكز إيواء، بينما تعرضت أكثر من 90% من المدارس، أي ما يزيد على 500 مدرسة، لأضرار جزئية أو كلية، في حين غادر آلاف المعلمين الخدمة نتيجة النزوح أو الصدمات النفسية.

وترى منظمات حقوقية أن حرمان أطفال غزة من التعليم لمدة عامين نتيجة الحرب يمثل انتهاكًا لحقهم الأساسي في التعليم، كما نصت عليه اتفاقية حقوق الطفل للأمم المتحدة (المادتان 28 و29). كما أن تدمير المدارس وتحويلها لمراكز إيواء يشكل خرقًا للقانون الدولي الإنساني، الذي يفرض حماية المؤسسات التعليمية في النزاعات المسلحة. يترتب على الدولة والجهات الدولية واجب توفير بدائل تعليمية عاجلة وبرامج دعم نفسي واجتماعي لتعويض الفاقد التعليمي وضمان استمرار الحق في التعلم.

المختص التربوي محمد الخضري يصف الوضع في قطاع غزة بأنه "كارثة تربوية ممتدة"، موضحًا أن غياب التعليم الوجاهي أوجد فجوات عميقة في التحصيل الدراسي، خاصة في مادتي اللغة العربية والرياضيات، كما حرم الأطفال من التفاعل الاجتماعي الضروري لنموهم النفسي والسلوكي. ويرى أن التدريس عن بُعد لم يكن بديلاً حقيقيًا في ظلّ ضعف الإنترنت والانقطاع المتكرر للكهرباء.

ويشير إلى أنّ خطة وزارة التربية لإقامة مدارس افتراضية تُعدّ خطوة مهمة نحو التعافي، لكنها تواجه تحديات كبيرة على الأرض، خصوصًا لدى الأطفال في سنٍّ مبكرة ممن يحتاجون إلى تفاعل مباشر ومتابعة حثيثة من المعلمين. ويضيف أن معظم الأسر لا تمتلك بنية رقمية متكاملة، فضلًا عن غياب الكهرباء المستقرة والأجهزة المناسبة، ما يجعل جدوى التعليم الافتراضي محدودة لهذه الفئة.

ويشدّد الخضري على أن خطة الوزارة للتعافي المبكر لا تكفي لتعويض الفاقد التعليمي المتراكم خلال عامين من الانقطاع، مؤكدًا أن إعادة التعليم إلى مساره الطبيعي تتطلب دعمًا فرديًا ومجتمعيًا واسعًا، وبرامج تربوية ونفسية متكاملة تعيد للأطفال ثقتهم بالتعلّم وقدرتهم على الاستيعاب من جديد.

في المقابل، تؤكد وزارة التربية والتعليم أنها تتابع عن كثب واقع الطلبة المتأثرين بانقطاع الدراسة. ويرى الوكيل المساعد للشؤون التعليمية في وزارة التربية والتعليم، أيوب عليان، أنّ الطلبة في المرحلة الأساسية معرضون لخطر الانفصال التعليمي، يقول: "هذا الوضع يؤثر على مهارات القراءة والكتابة الأساسية، والتفكير الرياضي والمنطقي، والقدرة على التفاعل الاجتماعي والانضباط المدرسي".

وعند سؤاله عن الطلبة الذين لم يتلقوا أي تعليم خلال العامين الماضيين، أجاب عليان: "الاندماج في المراحل القادمة سيكون صعبًا دون دعم فردي ومجتمعي، خصوصًا لهؤلاء الأطفال".

وأمام هذا الواقع المأزوم، تقول وزارة التربية والتعليم إنها تسعى لاحتواء الكارثة التعليمية عبر برامج تعويضية وخطط إنعاش مبكرة للتخفيف من آثار الانقطاع الطويل.

نشرت الوزارة خطةً متعددة المسارات للتعافي التعليمي، تتضمّن فتح مراكز تعليمية بديلة في مراكز الإيواء، وإنشاء مدارس افتراضية، وتوزيع مواد تعليمية مطبوعة، إلى جانب توظيف فرق متنقلة من المعلمين وتنفيذ برامج دعم نفسي لمعالجة آثار الصدمة. كما تهدف الخطة إلى تعويض الفاقد التعليمي من خلال حصص مكثّفة، وتدريب المعلمين على أساليب التدريس في حالات الطوارئ لضمان الجودة في بيئات غير تقليدية. 

وتشير كذلك إلى إعادة تأهيل المدارس المتضرّرة جزئيًا، وإنشاء صفوف مؤقتة في خيام أو مبانٍ جاهزة، بالتنسيق مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين – الأونروا والجهات الدولية، مع التأكيد على أن العودة إلى التعليم الوجاهي الكامل مرهونة بإعادة الإعمار، وأن التدريس الحضوري هو الخيار الاستراتيجي للمرحلة الأساسية. 

وتختتم الوزارة تصريحاتها بالتأكيد على أنّ الوصول للتعافي الحقيقي في الدراسة لا يقتصر على الشعارات؛ بل يحتاج دعمًا دوليًا وترجمة ملموسة في حياة الطلبة، مع الإشارة إلى أنّ الأولوية الحالية هي لرصد الأطفال الذين لم يلتحقوا بأي نوع من التعليم منذ عامين، وهم في صميم خطة التعافي.

رغم الجهود، تبقى الأسئلة قائمة: كيف يمكن تعويض طفل لم يتعلم الحروف في عامين؟ وهل التعليم الافتراضي واقعي في مناطق بلا كهرباء أو أجهزة؟

من جهتها، تحاول عدة جهات محلية توفير حلول تعليمية بديلة للأطفال، ومن بينها جمعية أجيال للإبداع والتطوير، التي تقيم مساحات تعليمية مؤقتة صديقة للأطفال، تتيح لهم العودة الآمنة للتعلم في بيئة محفزة، مع اعتماد أساليب التعليم غير الرسمي القائمة على اللعب والتجريب والتفاعل.

رئيس جمعية أجيال للإبداع والتطوير عبد الله شرشرة، يقول: "نحن نعيد التأسيس من الصفر، فهناك أطفال في سن العاشرة لا يعرفون كتابة أسمائهم. نعتمد التعليم التفاعلي واللعب لتعويض ما فُقد، من خلال برامج مكثفة تركز على المهارات الأساسية بطريقة ممتعة، وتدمج الأنشطة الفنية والحركية لتحفيز الانتباه، مع تدريب مستمر للمعلمين على أدوات التدريس التعويضي والتقييم الفردي للطلبة."

ويؤكد شرشرة أنّ المشكلة "تتجاوز قدرات المؤسسات الأهلية"، وأن الحلّ يتطلب "تحالفًا وطنيًا ودوليًا لإعادة بناء النظام التعليمي من الجذور."

المختصة النفسية هالة سكر توضح أن الأطفال في قطاع غزة لم يعودوا يعيشون أجواء التعلم الطبيعية، بل أصبح تركيزهم موجّهًا نحو التكيّف مع الخوف وتأمين احتياجاتهم الأساسية. 

وتقول سكر إن عقول الأطفال بعد عامين من النزاع باتت مشغولة بالتعامل مع الخطر أكثر من الانتباه للكتاب أو الدرس، ما خلّف اضطرابات في نموهم المعرفي والاجتماعي. 

وتشير إلى أن العودة إلى التعليم لا يمكن أن تكون مباشرة، بل يجب أن تسبقها برامج دعم نفسي تُعيد للأطفال شعورهم بالأمان قبل مطالبتهم بالتركيز أو الدراسة.

وترى سكر أن الخطر الأكبر هو أن "جيلًا كاملًا قد يفقد ثقته في المدرسة كمكان للأمان والمعرفة؛ لذلك ما نحتاجه ليس فقط إعادة فتح المدارس، بل إعادة ترميم النفس التي ستجلس على مقعد الدراسة."

بين خيمة وركام مدرسة مهدّمة، يقف جيلٌ كامل من أطفال غزة بانتظار إجابة واحدة: هل سيعودون يومًا إلى صفوفهم، أم سيكبرون بلا حروف؟