البتر لا يطال أطراف النساء فقط بل علاقتهن الزوجية

حكايات خذلان مزدوجة

البتر لا يطال أطراف النساء فقط بل علاقتهن الزوجية

"فقدت يدي في القصف، لكن هجْر زوجي كان الأصعب"، تقول نادية أحمد (*) البالغة من العمر 35 عامًا، من مخيم البريج وسط قطاع غزة، بينما لا يزال شبح الحرب وتدّاعياتها تُخيم على كل شارع وبيت. تعود بذاكرتها إلى تلك اللحظة التي فقدَت فيها كل شيء دفعة واحدة؛ يدها، وزوجها، وإحساسها بالأمان.

تروي بحسرة: "استيقظت في مستشفى شهداء الأقصى لأجد أنني فقدت يدي. لم أستوعب الأمر في البداية، كنت أبحث عنها بعيني كأنّها ما زالت هناك. لكنّ الصدمة الأكبر لم تكن في الجسد، بل في القلب، حين قرر زوجي الانفصال عني بعد أيام فقط من إصابتي".

تستعيد المشهد وتصف كيف كانت نظرة الشفقة في عيني زوجها تتحوّل ببطء إلى انزعاج، ثم إلى نفورٍ صامت، كأنّه لم يعد يحتمل وجودها بتلك الصورة. تضيف: "كنت أراه يبتعد يومًا بعد يوم، لا بالكلام بل بالصمت البارد والنظرات الهاربة، حتى قرر في النهاية الانفصال، بدلاً من أن يكون سندي في أصعب لحظات حياتي".

لم تعد التفاصيل الصغيرة في حياة السيدة أحمد كما كانت من قبل. صارت أبسط المهام اليومية تستنزفها في كل مرة؛ كأنّ تمسك السكين لتقشير حبة بطاطس لأطفالها، أو تحاول ربط حذائها بيدٍ واحدة. حتى حين تضمّ ابنها الصغير إلى صدرها، يداهمها شعور بالغصّة لأنها لم تعد تستطيع احتضانه كما اعتادت. في تلك اللحظات، كانت تتمنى لو بقي زوجها إلى جانبها، لا أن يتركها تواجه العجز وحدها.

تجربة نادية ليست فردية، فالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أفرزت موجة واسعة من الإعاقات، لا سيما بين النساء اللواتي وجدن أنفسهنّ في مواجهة "ظلمٍ مركّب" يجمع بين الإصابة الجسدية والنظرة المجتمعية النمطية. وتُظهر تقارير أممية أن النساء ذوات الإعاقة يواجهن تحديًا مضاعفًا، إذ لا يزال المجتمع يربط بين "القدرة الجسدية" و"أدوار المرأة التقليدية داخل الأسرة". 

وتُشير بيانات جهاز الإحصاء المركزي إلى أنّ نسبة المتزوّجات بين النساء ذوات الإعاقة لا تتجاوز 37% مقابل 66% بين الرجال، في مؤشرٍ على فجوة اجتماعية تعمّق التمييز وتُبرّر في كثير من الحالات هجر الأزواج لزوجاتهم بعد الإصابة أو زواجهم بأخريات بحجة عدم قدرتهن على رعاية الأسرة.

أمل محمد (*) تعيش تجربة مشابهة. تقول: "بعد شهرين فقط من زواجي، وأثناء حملي، بُترت ساقي نتيجة القصف. كانت الصدمة الكبرى حين قرر زوجي هجري وتزوج بأخرى، تاركًا إياي لدى أهلي، بينما أحاول التأقلم مع إعاقتي الجديدة وانتظار قدوم طفلي الأول."

لم تستوعب محمد (29 عامًا) في البداية ما حدث. كانت تتأرجح بين ألم الجسد ووجع الروح؛ لم يكن سهلاً عليها أن تستيقظ كل صباح على جسدٍ لم تعتده بعد، وهي ما تزال تنتظر أن تصبح أمًا. كانت تتخيل لحظة الولادة بفرحٍ يمتزج بالدموع، لكن أكثر ما أوجعها أن زوجها لم يكن هناك، لم ير ابنه، ولم يسأل عنه.

اليوم وبعد مرور تسعة أشهر، تحاول هذه الشابة التأقلم مع إعاقتها ورعاية طفلها الرضيع، وكل يوم يبدو كأنّه اختيار جديد للصبر والقدرة على الاحتمال، تردف: "لم أتخيل أن أفقد ساقي وسند زوجي في الوقت نفسه، كنت أظن أن قدوم طفلتنا سيعيده إليّ، لكنه لم يعد، كأن إصابتي جعلتني عبئًا عليه وألغت كل ما كان بيننا".

أما في قصة يسرى منير (*)، فيتجلى الوجع بأقسى صوره، فهي لم تفقد أطرافها فقط، بل فقدت أيضًا خمسة من أبنائها في استهداف طال منزل جيرانها، في خانيونس جنوب قطاع غزة خلال الحرب الإسرائيلية التي امتدّت لعامين (2023- 2025)، وأُعلن عن وقف إطلاق النار فيها قبل بضعة أسابيع.

تقول منير (40 عامًا)، بصوتٍ متهدج: "أصيبت يدي اليمنى ورجلي أثناء القصف، وبُترتا، وفقدت خمسة من أبنائي في اليوم نفسه. لم أكن أستوعب حجم الفقد، كنت أظن أن الألم بلغ أقصاه، لكن ما زاد الوجع أن زوجي قرر الانفصال عني بعد ذلك".

تشعر منير أن حياتها انكسرت دفعة واحدة. لم يكن الفقد في جسدها وحده، بل في كل ما شكّل عالمها الصغير. منذ ذلك الحين، تقصد المقبرة كل صباح تقريبًا، تجلس إلى جوار قبور أبنائها وتحدّثهم بصوتٍ خافت، كأن الحديث يُبقيهم قريبين منها. هناك فقط تشعر ببعض السكينة، قبل أن تعود إلى بيتٍ امتلأ بالفراغ وذكرياتٍ لا تهدأ.

خلف هذه القصص الفردية تتكشف أرقام صادمة ترسم ملامح المأساة على نطاقٍ أوسع. ففي تصريحٍ للأمم المتحدة، أوضح إبراهيم خريشة، المراقب الدائم لدولة فلسطين في جنيف، أنّ أعداد الأشخاص ذوي الإعاقة في غزة شهدت تصاعدًا حادًا منذ اندلاع الحرب الأخيرة، مشيرًا إلى توثيق ما لا يقل عن 4800 حالة بتر منذ أكتوبر 2023، منها 76% في الأطراف العلوية و24% في السفلية. 

وأضاف خريشة أنّ الأشخاص ذوي الإعاقة شكّلوا قبل اندلاع النزاع نحو7% من سكان فلسطين، وهي نسبة تضاعفت اليوم بفعل القصف المكثّف للمناطق السكنية في قطاع غزة واستخدام الاحتلال الإسرائيلي المفرط للقوة ضدّ المدنيين.

لكن ما وراء هذه الأرقام معاناة نفسية عميقة لا تُقاس بالإحصاءات، بل تنعكس في حياة النساء اللواتي يجدن أنفسهن يواجهن الفقد والوحدة معًا. تقول المختصة النفسية والاجتماعية ندى المصري إن النساء اللواتي أُصبن بإعاقات نتيجة الحرب، خصوصًا من تُركن من أزواجهن أو فقدن أبناءهن، يعانين من آثار نفسية واجتماعية شديدة. 

تردف: "الصدمة الجسدية وحدها لا تفسر معاناتهن؛ بل تأتي الصدمة النفسية الناتجة عن الهجر أو الفقد لتضاعف الألم، فحين تُربط الإعاقة في نظر البعض بالعجز أو فقدان الأنوثة، تشعر المرأة بأنها لم تخسر جزءًا من جسدها فقط، بل مكانتها داخل الأسرة أيضًا".

وتشير المصري إلى أنّ من أبرز هذه الآثار شعورًا دائمًا بالعجز يرافق النساء، إلى جانب الاكتئاب، والانعزال الاجتماعي، وفقدان الدافع للحياة. تتابع: "الكثير منهنّ يشعرن أن وجودهنّ أصبح هامشيًا، وأنهن لم يعدن يُنظر إليهن كشريكات في الحياة أو كأمهات قادرات، بل كعبء، وهذا ما يفاقم إحساسهن بالوحدة والحرمان العاطفي".

في غزة، تتقاطع الإعاقة مع النوع الاجتماعي لتُعمّق هشاشة موقع النساء داخل الأسرة والمجتمع. فالحرب لم تخلّف إصابات جسدية فحسب، بل كشفت عن منظومة من التحيزات التي تُقيِّم المرأة بمعايير جسدية واجتماعية صارمة. ويرى مختصون اجتماعيون أن كثيرًا من النساء ذوات الإعاقة يجدن أنفسهن أمام واقعٍ معقد تتداخل فيه الإعاقة مع الفقر وفقدان الشريك، ما يجعل فرص الزواج والاستقرار أكثر ضيقًا من أي وقت مضى. 

كما تبرز أنماط من العنف القائم على النوع الاجتماعي ضدهن، تشمل الهجر أو الزواج بأخرى، تحت ذرائع ترتبط بـ "العجز عن رعاية البيت أو الأطفال". هذه التحولات لا توثق فقط استمرار النظرة النمطية تجاه المرأة المعاقة، بل تكشف أيضًا كيف حوّلت الحرب الإعاقة من تجربة جسدية إلى وصمة اجتماعية تُعيد تشكيل الحياة الأسرية من جذورها.

إحصائيًا، تضاعف هذا الواقع كما يؤكد منسق عمل ذوي الإعاقة في قطاع غزة، إياد الكرنز، الذي يشير إلى أن الحرب خلّفت نحو 43 ألف شخص من ذوي الإعاقة الجدد، تشكّل النساء 40% منهم، أي ما يُقارب 17 ألف امرأة، ليُضاف هذا العدد إلى نحو 58 ألف شخص كانوا مسجّلين قبل الحرب، نصفهم تقريبًا من النساء.

ويقول الكرنز إنّ: "90% من النساء ذوات الإعاقة قبل الحرب غير متزوجات، بسبب الثقافة الاجتماعية التي تربط الزواج بصورة الجسد المثالي". موضحًا أن الإعاقات الناتجة عن الحرب لم تغيّر فقط ملامح الجسد، بل غيّرت موازين الحياة الشخصية والاجتماعية، إذ يواجه كثير من النساء الهجر أو الانفصال بعد الإصابة، فيتحوّل الألم الجسدي إلى صدمةٍ نفسية مضاعفة تعيد تشكيل حياتهن من جديد. 

من زاويةٍ حقوقية، لا تُعد هذه القصص مجرد حكايات عن الفقد والعجز، بل شواهد على غياب العدالة للنساء ذوات الإعاقة في غزة. فبرغم انضمام فلسطين إلى اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عام 2014، وما تنصّ عليه من مساواة وتمكين، ما تزال كثير من النساء يواجهن واقعًا يعاكس تلك المبادئ؛ إذ تتحوّل الإعاقة في بيئة الحرب والحصار إلى عبء مضاعف يُقصي النساء من حقوقهن الأساسية، ويتركهن على هامش الحماية التي يفترض أن تضمنها القوانين.

خلف كل حالة بترٍ من النساء حكاية هجرٍ لا تقلّ قسوة. فالنزاع لم يجرّد بعض النسوة من أطرافهن فحسب، بل انتزع من حياة الكثير منهنّ السند الذي كان يُفترض أن يخفّف وطأة الألم، لتغدو الحرب في نظرهنّ بدايةً لخذلانٍ أطول عمرًا من القصف نفسه.

 

(*) أسماء مستعارة