الخشية من تجدد الحرب تجعل سكان يعلقون في الفراغ

الخشية من تجدد الحرب تجعل سكان يعلقون في الفراغ

من نافذة السيارة التي غادرت قبل دقائق جنوب قطاع غزة نحو شمالها، تحدّق المُسنة هنادي دياب (58 عامًا) في مشهد الركام الممتد أمامها على مدّ النظر، فيخيِّم صمت ثقيل وحرارة تخترق جسدها المنهك. كل نسمة هواء تمرّ على وجهها تشعل في صدرها مزيدًا من الاحتراق.

كانت قد رأت صور بيتها المهدّم إثر قصفٍ إسرائيلي، لكنّها حين وصلت إلى جباليا شمالي القطاع، أدرَّكت أنّ الصورة لم تختزن شيئًا من ثقل الحقيقة. ترجلت بخطى مترددة نحو ما كان يومًا بيتها وثمرة خمسة عشر عامًا من الكدّ؛ لتجد بقايا غرفةٍ تقف وحيدة وسط الركام.

في الطريق اتخذت قرارها: لن تعود إلى شمال قطاع غزة. تقول بصوتٍ مبحوحٍ ومرهق: "لقد سئمت الخوف والنزوح والحياة المرهقة. أودّ العودة لركام البيت لأنصب خيمتي التي سكنتها عامًا ونصف، لكني لا أستطيع... خوفي من تجدد الحرب ومن فكرة النزوح من جديد يمنعني."

الخوف لم يكن وحده ما يقيّدها. لكن التحدّيات الخدماتية كثيرة أيضًا، تُعدّد على أصابعها: "لا ماء، لا إنترنت، لا أسواق قريبة، وحتى المراكز الطبية إما مدمّرة أو بعيدة جدًا. نعيش على المساعدات التي تصل بصعوبة، والبعوض لا يرحم أحدًا، ينهش ليالي النازحين كما ينهش خوفهم المتواصل."

ثم تختتم حديثها: "كل ذلك يمكن احتماله، يمكننا التأقلم معه كما فعلنا من قبل، لكن احتمال تجدد الحرب هو الكارثة الحقيقية. سنعود فقط عندما تهدأ الأوضاع ويتوقف النزاع بلا رجعة."

منذ وقف إطلاق النار على قطاع غزة في أكتوبر الماضي، يعيش السكان حالة طمأنينةٍ هشةٍ، أشبه بفخّ يترصّدهم. الحياة اليومية تستمر، لكن ظلّ الانتظار والخوف لا يغادر الأجواء. كثيرون يمتنعون عن العودة من نزوحهم في محافظات جنوب القطاع  إلى شماله، يخشون أن يكون الهدوء مجرّد استراحة قصيرة قبل موجة نزوح جديدة، كحلقة إضافية في سلسلة لا يبدو أن لها نهاية.

في خيمة نزوحٍ بخان يونس جنوب القطاع، يجلس محمد جاسر (43 عامًا) يُقلِّب في ذهنه تكلفة رحلة العودة إلى شمال القطاع. وبينما يحسب التكاليف، يهزّ انفجارٌ قريب الأرض من تحته. يتجمّد للحظة، يلتفت إلى أبنائه الذين يلحّون عليه بالعودة، ويقول بصوتٍ حاسمٍ ومرتجف: "لن نعود... ولا تناقشوني."

نزح جاسر ثلاث عشرة مرة خلال عامين من الحرب الإسرائيلية فقَدَ بيته وخسر مُدّخراته، وأنفق نحو خمسة عشر ألف دولار فقط على النزوح والطعام، مبالغ استُنزفت في تنقّلٍ دائم، في استئجار شاحنات، وشراء طعامٍ بأسعارٍ مضاعفة وسط الندرة. ومع كل مرة كان يبدأ من الصفر، كأنّ الحرب تُعيده إلى نقطة العدم. يردف: "أريد العودة، لكني خائف. أبنائي يلومونني، لكنني لا أحتمل كلفة نزوح جديد. أنا الآن فقط أنتظر... وأخاف بصمت".

ما يواسيه أنَّ كثيرًا من النازحين من شمال غزة يشاركونه المشاعر ذاتها: الخوف، الحيرة، والقلق المستمر. يرى وجوههم المنهكة، ويسمع حكاياتهم المتشابهة في الخيام المجاورة، الجميع يتحدث عن بيتٍ مهدّم، عن انتظارٍ طويل، وعن رغبةٍ واحدة في حياةٍ لا يهددها القصف. يقول وهو يتنهد بعمق، مُحدّقًا في الأفق الرمادي المُمتد أمامه: "نريد أن نشعر بالاستقرار فحسب... لم يعد هناك بيت ولا أمان".

بلغة الأرقام، تكشف بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أنّ عدد المباني المتضررة خلال عامين من الحرب بلغ نحو 190,15 مبنى، منها 102,067 مبنى مدمّر بالكامل، فيما تضرر 41,895 مبنى جزئيًا.

لكن عمليًا، تعني هذه الأرقام أن نحو ثلث البنية السكنية في قطاع غزة لم تعد صالحة للحياة. آلاف العائلات باتت بلا مأوى دائم، وأحياء كاملة اختفت من الخريطة، تحوّلت إلى مساحات رمادية من الركام والبيوت المنهارة. في بعض المناطق، لم يبقَ سوى أطلال جدران تحمل بقايا ألوان غرفٍ كانت يومًا تضج بالحياة.

كما أنّ هذا الدمار الواسع يعني تراجع الخدمات الأساسية إلى ما دون الحدّ الأدنى؛ مدارس تحوّلت إلى ملاجئ، مستشفيات تعمل بطاقة متهالكة، وشوارع ضيقة تختنق تحت ثقل الدمار.

في دير البلح وسط القطاع، تعيش سهام عبد الله (33 عامًا)، أمّ لطفلين، فوبيا عودة الحرب. يلازمها الصداع والقلق، وتفقد شهيتها للنوم والطعام، حتى لجأت إلى طبيبٍ نفسي وصف لها مهدئات لم تُجدِ نفعًا. تقول إنّ الخوف أصبح جزءًا من يومها، يسكنها مع كل صوتٍ مرتفع أو طائرةٍ في السماء، كأنها لا تزال تعيش في دوامة القصف.

تروي وهي تبتلع حبتها اليومية: "أشعر أنّ الحياة توقفت منذ عامين. كنت أعيش في بيت جديد لعامٍ واحد فقط قبل أن يُقصف. فقدتُ صديقتي المقربة، ومنذ ذلك اليوم وأنا عالقة هناك... لا أستطيع العودة ولا أريد رؤية الدمار."

أما نور أكرم (23 عامًا)، فتقف أمام أطلال منزلها وسط مدينة غزة، تنتشل من تحت أنقاضه بضع كتب نجت من النيران لتأخذها إلى خيمتها في جنوب القطاع. قررت عائلتها ألّا تعود حتى تتعافى من نوبات القلق التي تلاحقهم.

تقول: "القلق لا يغادرني منذ عامين. أقرأ بنهم وأدوّن لأفرّغ ما بداخلي. لطالما كرهت الانتظار، لكني الآن أعيش فيه... أنتظر فقط بقعة حياة صغيرة تعيد إليّ بعض الاطمئنان. كل صفحة أقرؤها تشبه محاولة تنفّس في وسط الركام، وكل سطر أكتبه هو طريقة للبقاء متماسكة. لا أعرف إن كنت أشفى فعلاً، أم أنني فقط أؤجّل الانهيار."

ووفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، يعاني نحو 485 ألف شخص في غزة من اضطرابات نفسية، بينهم 20 ألفًا بحاجة إلى تدخل طبي متخصص. وأظهرت دراسة نُشرت في يوليو 2025 أن 72.7% من المشاركين يعانون من اكتئاب متوسط إلى شديد، و65% من القلق المتوسط إلى الشديد، بينما أُصيب 83.5% منهم باضطراب ما بعد الصدمة، وهي نسب غير مسبوقة في تاريخ القطاع.

تُشير المختصة النفسية فلسطين ياسين، إلى أنّ هذه الأرقام تعكس أزمة إنسانية حقيقية تتجاوز الإحصاءات، وتقول: "البيانات تُظهر حجم المعاناة، لكن الأثر النفسي أعمق من ذلك. العديد من الأشخاص يعيشون خوفًا دائمًا، واضطراب النوم، ونوبات قلقٍ مفاجئة". 

وتوضح أنّ الأطفال والبالغون على حدٍ سواء يعيشون كل يوم مع ذكريات الصدمات المتكررة، يتقافزون في أذهانهم ككوابيس لا تهدأ. وسط هذا الواقع، يندر وجود أي دعم نفسي فعّال، فالكثير منهم يتعامل مع الصدمات بمفرده، بينما التوتر والقلق يثقلان حياتهم اليومية، ويجعلان كل لحظة محتملة للانهيار النفسي. 

تُظهر الأرقام أن سكان غزة يعيشون صراعًا مريرًا مع الخوف والقلق في ظلّ انهيار شبه كامل لمنظومة الصحة النفسية. هذه المعاناة ليست مجرد أرقام، بل حقيقة ملموسة تتخلل كل بيت وعائلة في غزة. بين ركام البيوت وذكريات النزوح المتكرّر، يظلّ الغزيون محاصرين بين ماضٍ لا يُنسى ومستقبل غامض، يبحثون عن أي بصيص أمان أو استقرار يخفف من وطأة الأزمة.

ورغم كل شيء، يبقى خيط الأمل رفيعًا لكنه قائم، أملٌ بعودةٍ إلى حياةٍ طبيعية، خالية من صفارات الإنذار، ومن انتظارٍ يبدو بلا نهاية.