الحلوى لم تعد تُسكّن الألم: عن أطفال السرطان في غزة

الحلوى لم تعد تُسكّن الألم: عن أطفال السرطان في غزة

كان يوسف أبو طه يُمسك بيد ابنه سعدي، يحاول أن يوقظه من غيبوبته الأخيرة، لكن الأصابع الصغيرة بردت قبل أن يصل العلاج. في خيمةٍ مهترئة جنوب غزة، انتهت معركة الطفل ذي الأعوام الثمانية مع سرطان الأمعاء، بعدما قاوم خمس سنواتٍ من الألم والأمل المؤجل.

يقول الأب بصوتٍ يختنق بالقهر: "ذهب ابني إلى ربه قبل أيام. خضع سابقًا لعملية استئصال الورم عندما كان عمره أربع سنوات، نجحت العملية، لكنه خلال الحرب تعِب فجأة، ومع نقص الأدوية والعلاجات تدهورت حالته."

بدأت مأساة الطفل سعدي حين احتاج إلى غسيل كلى، لكن الأطباء أخبروه بأنّه لا يمكن إجراء الغسيل لطفلٍ في مثل عمره وفق التعليمات الطبية المتاحة. يردف والده: "منذ ذلك اليوم، بدأت حالته تسوء شيئًا فشيئًا. صار يضعف بسرعة، ويشكو من ألمٍ متزايد، ثم فقد شهيته للطعام والنوم. بعد أيام، بدأ يتبول دمًا، وفقد البصر ليلًا، وانخفضت حرارته، ولم يكن ثمة علاج أو أمل بالسفر".

كان أبو طه يجلس إلى جوار سرير ابنه في أيامه الأخيرة، يراقب أنفاسه تتناقص شيئًا فشيئًا، وعيناه تبحثان عن أملٍ لا يأتي. لم يكن في المستشفى دواء، ولا طبيبٌ قادر على فعل شيء، وما زاد الأمر صعوبةً عدم توفر مسكنات الألم لمرضى السرطان الأطفال، فبقي الصغير يئن من الوجع دون أن يجد ما يخففه.

يتابع الأب حديثه بصوتٍ يختلط فيه الرجاء بالعجز: "مكث ابني أيامًا متواصلة دون علاج أو متابعة صحية. سألت الطبيب: ابني يحتضر، هل يمكنكم أن تفعلوا له شيئًا؟ فقال لي بصراحة مؤلمة: لا يوجد علاج، ولا أستطيع أن أقدّم شيئًا. رحل ابني دون أن يتلقّى أي نوعٍ من العلاج".

ولم تكن هذه المأساة الأولى التي يعيشها هذا الرجل؛ فقد سبق أن فقد طفلته جنى، التي لم تكمل عامها الأول بسبب ثلاثة ثقوبٍ في القلب. واليوم، لم يبقَ له سوى طفلتيه ملك وبتول، تعيشان معه على ذكريات الفقد والخذلان.

حال إغلاق المعابر دون تحويل الطفل سعدي لاستكمال علاجه، فأُضيف اسمه إلى قائمة ضحايا غياب التنسيق الطبي. ففي غزة، يواجه مرضى السرطان الموت بلا علاج، فيما ينتظر آلافهم تحويلاتٍ لا تصل. ووفق وزارة الصحة، توفي نحو 983 مريضًا خلال عامي الحرب، أيّ بمعدل يقارب مريضًا إلى مريضين يوميًا قبل أن تُتاح لهم فرصة العلاج.

في خيمةٍ بمواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، تحتضن منى زقوت طفلتها ريتال العالول (4 أعوام) وتبكي وهي تروي حكاية مرضٍ باغتهما بلا إنذار. تقول بصوتٍ متهدّج: "كنا نازحين في الشيخ رضوان شمال القطاع، وبدأت ريتال تشكو من ألمٍ في ظهرها. قال الأطباء إن الأمر بسيط، لكن بعد أسبوعين اكتشفنا أنه ورمٌ خبيث وعدواني ينتشر بسرعة."

تتابع الأم وعيناها معلّقتان بطفلتها الهزيلة: "بعد إجراء صورة مقطعية، تغيّر كل شيء خلال يومين فقط؛ انتفخت عيناها وأصبحتا بارزتين، وتوقفت عن الأكل والمشي. لم نجد علاجًا في غزة سوى جرعاتٍ من مسكن المورفين نستخدمها لتخفيف آلامها، علّها تنام قليلًا دون أن تبكي من الوجع."

ريتال مصابة بالورم الأرومي العصبي، أحدّ أندر أنواع السرطان في العالم وأكثرها عدوانية، إذ يصيب نحو خمس حالات فقط بين كل مليون طفل. وفي غزة، لم تجد الطفلة مكانًا يوفّر لها تشخيصًا دقيقًا أو علاجًا كيماويًا، فاضطرت والدتها، على عاتقها الشخصي ودون وصفة طبية، إلى إعطائها مسكنًا قويًا يُستخدم عادة في العمليات القيصرية، لتخفيف آلامها مرتين، وأحيانًا ثلاث مرات يوميًا.

على بعد مئات أمتار، تقطن أسرة الطفل أحمد الجد (10 أعوام) في خيمة نزوحٍ أخرى، تحاصرها المأساة من كل جانب؛ فبيتهم دُمّر، ووالدهم استُشهد، والطفل يصارع ورمًا خبيثًا في الدماغ يهدد حياته يومًا بعد يوم.

تروي شقيقته شهد: "بدأ أحمد يشكو من صداعٍ متكرر قبل شهر ونصف. ظنّت والدتي أنه صداع عادي، فكانت تعطيه مسكن أكامول، لكن الألم استمر واشتد حتى لم يعد يُحتمل".

بعد الفحوصات، تبيّن أنّ الطفل مصاب بورم في الدماغ. فأُجريت له عملية مؤقتة في مستشفى ناصر لعلاج الاستسقاء الدماغي عبر زراعة أنبوب من الرأس إلى البطن لتصريف المياه المتراكمة، لكن حالته ما تزال حرجة جدًا.

اليوم، لم يعد أحمد قادرًا على المشي أو تحريك يده اليمنى، بعدما أخذ الورم في التمدد داخل دماغه بسرعةٍ تفوق قدرة الأطباء على السيطرة. تدهورت صحته تدريجيًا حتى فقد توازنه، ثم قدرته على الإمساك بالأشياء أو الكلام بوضوح، وسط عجز العائلة عن توفير العلاج اللازم.

تُضيف أخته بصوتٍ يغلبه اليأس: "ننتظر التحويلة الطبية للسفر منذ أسابيع، لكنها لم تصدر بعد، ونحن نعيش في خيمة بلا دواء، ونشتري المسكنات على حسابنا الشخصي فقط ليتمكن أحمد من النوم دون ألم".

الأطباء حذروا من تدهور حالته في أي لحظة، مؤكدين أنّ حياته تتوقف على تلقي العلاج في الخارج بشكلٍ عاجل. لكن إغلاق الاحتلال للمعابر ونقص الإمكانيات الطبية يحولان دون ذلك، فيما تواصل أسرته نداءها للعالم: أن يُمنح هذا الطفل فرصة للنجاة قبل فوات الأوان.

أخصائي علاج الدم والأورام، الطبيب عوض أبو هلول، يشير إلى خطورة هذا الواقع على الأطفال المصابين بالسرطان، ويقول: "المسكنات المخصّصة للأطفال شبه معدومة، ونحاول عدم استخدامها قدر الإمكان، فيما ننتظر عودة مستشفى الرنتيسي للعمل بوصفه المركز الوحيد المتخصّص بعلاجهم في غزة، لاستئناف ما تبقّى من جلسات العلاج."

يردف الطبيب: "أحيانًا نضطر إلى استخدام المورفين أو الترامادول؛ لكنها أدوية خطيرة ولها آثار جانبية كبيرة على الأطفال باعتبارها نوعًا من المخدرات، واستخدامها الطويل يُسبّب الإدمان." ويؤكد أنّ بعض الحالات لا تستجيب لأي نوعٍ من المسكنات، خصوصًا أورام الدماغ والأورام العصبية؛ ما يجعل التعامل معها أكثر تعقيدًا ويزيد من معاناة الأطفال والأطباء على حدٍّ سواء.

ويوضح أبو هلول أنّ المسكنات تُستخدم للأطفال وفق وزنهم وعمرهم ونوع المرض وشدة الألم، وتُعطى بجرعاتٍ محدودة لتجنّب المضاعفات، فيما يواجه هؤلاء الصغار نقصًا حادًا في الأدوية وصعوبةً في السفر للعلاج، فتغدو أجسادهم الهشّة عاجزة عن مقاومة المرض الذي ينتشر سريعًا حين يتأخر التدخل الطبي.

لكن المدير الطبي لمركز غزة للسرطان، محمد أبو ندى، يرى أن المشكلة أعمق من مجرد نقصٍ في الدواء، إذ يقول: "نحن نواجه خللًا بنيويًا في التشخيص والعلاج. لا تتوفر معدات لفحص الأنسجة أو أجهزة تصويرٍ مقطعي دقيقة، وغالبًا ما يتعذر تحديد نوع الورم بدقة. وحتى عندما نُشخّص المرض، لا تتوفر سلسلة الأدوية الكاملة لاستكمال العلاج."

ويضيف أبو ندى أن العلاج الإشعاعي غير متوفر إطلاقًا في غزة، رغم أن نحو 40% من مرضى السرطان بحاجةٍ إليه؛ ما يجعل مئات الحالات عالقة بين التشخيص والعلاج، في انتظار فرصةٍ للسفر أو معجزةٍ توقف تمدد المرض.

وتشير تقديرات مركز غزة إلى أنّ هناك 13 ألف مريض سرطان في قطاع غزة، بمتوسط 2000 حالة جديدة سنويًا.  وخلال عامي النزاع (2023- 2025)، تمكن فقط 2500 مريض من السفر للعلاج، فيما ينتظر 11 ألف مريض فرصة للعلاج أو التشخيص، بينهم 3000 طفل بحاجة ماسة إلى علاج عاجل، وقد توفي العشرات منهم.

كما يوضح أبو ندى جانبًا آخر من الأزمة، مشيرًا إلى أنّ نحو 70% من الأطفال المرضى يُسمح لهم بالسفر للعلاج، في حين يُرفض تنسيق نحو 30% منهم. فيما يلفت إلى أنّ سرطان الثدي يُشكّل قرابة 30% من إجمالي الحالات في القطاع، وغالبًا ما يصيب نساءً شابات في العشرينات والثلاثينات من العمر.

يُظهر الواقع الصحي في غزة عجزَ وزارة الصحة عن مواجهة حجم الكارثة المتفاقمة. فبحسب زاهر الوحيدي، مدير وحدة المعلومات الصحية في الوزارة، لم يدخل أي جهازٍ طبي جديد إلى مرافقها منذ عامين، ما يعني أن الأدوات المتاحة اليوم هي ذاتها التي استُنزفت بفعل الحرب والحصار. ويضيف الوحيدي أن أكثر من 18,500 مريض أنهوا إجراءات التحويل للعلاج خارج القطاع وينتظرون السفر، في وقتٍ تتزايد فيه أعداد المصابين وتتقلّص فرص العلاج.

تكشف هذه الأرقام عن أزمةٍ مزدوجة تتمثل في نقصٍ حادّ داخل المنظومة الصحية من جهة، ومنعٍ متواصلٍ للسفر للعلاج خارجها من جهةٍ أخرى، ما يترك مئات المرضى في مواجهة الموت بلا خيار. 

وتتوزع المسؤولية بين عدة أطراف: الاحتلال الإسرائيلي الذي يفرض قيودًا مشددة على مرور المرضى ويغلق المعابر مانعًا استكمال علاجهم في الخارج؛ وضعف منظومة التحويلات الطبية؛ إضافة إلى المنظمات الدولية التي اكتفت بتقديم مساعداتٍ جزئية دون بناء بنيةٍ تحتيةٍ مستدامة للتشخيص والعلاج.

أما وزارة الصحة في غزة، فتعاني عجزًا ماليًا وبشريًا كبيرًا، إلى جانب قصورٍ في إنشاء نظام رقابة فعّال لإدارة الأدوية والعلاجات، لتبقى الأزمة دائرة بين الحصار والعجز وسوء الإدارة، يدفع ثمنها المرضى بأجسادهم وحياتهم.

في النهاية، ليس السؤال عمّن مات، بل عمّن ترك المرض يتحوّل إلى حكمٍ بالإعدام. ففي غزة، يموت الناس بصمتٍ لا يسمعه أحد، لأن الدواء تأخر، ولأن معبرًا لم يُفتح في الوقت المناسب.

كل طفلٍ يموت بانتظار تحويلة أو جرعة دواء، شاهدٌ على فشلٍ دولي في حماية المرضى المدنيين، وعلى نظامٍ صحيٍ محاصرٍ ومشلولٍ لا يملك سوى الأمل.