كان هاتف بسمة ناصر (28 عامًا) بوابتها الوحيدة إلى عالمٍ آخر، عالمٍ لا مكان فيه للقنابل، بل فقط لأصوات الأساتذة وهموم البحث الأكاديمي. فبينما تجلس في خيمة نزوحها ببلدة الزوايدة وسط قطاع غزة، تُحرّك هاتفها في الهواء بحثًا عن إشارة إنترنت قد تسعفها لمتابعة محاضرة الماجستير في الإعلام وعلوم الاتصال.
حولها تتناثر الأغطية المهترئة، وتختلط أصوات الأطفال بصدى الانفجارات البعيدة، لكنها تواصل المحاولة بإصرار، وكأنّها تُمسك بخيطٍ رفيع يصلها بالحياة خارج الخيمة. تقول ناصر وهي تبتسم بخفوت: "بعد أشهر من التوقف بسبب الحرب، عدنا للتعليم الإلكتروني، لكن العودة كانت مختلفة كليًا."
لم تكن الدراسة بالنسبة إليها ترفًا، بل نافذة للبقاء. فقبل الحرب، أنهت عامها الأول في الماجستير بامتياز، قبل أن يتوقف كل شيء فجأة تحت القصف. أما اليوم، فهي تقطع نحو ثلاث كيلومترات سيرًا على الأقدام من الزوايدة إلى دير البلح وسط القطاع، بحثًا عن إشارة إنترنت قوية تكفيها لأداء امتحان أو تنزيل محاضرة.
تقول: "كنت أخاف أن ينقطع الإنترنت أثناء الامتحان، أو أن يسقط صاروخ قريب ينهي كل شيء في لحظة." ورغم مرات النزوح العديدة والمستمرة خلال عامي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (2023- 2025)، وانقطاع الكهرباء والإنترنت، لا تزال ناصر متمسكة بحلمها. تمسح الغبار عن حاسوبها المحمول، وتجلس أمامه كلما سمحت الظروف.
قبل بضعة أسابيع فقط، كانت تستعد لتقديم خطة بحثها، لكن اشتداد القصف والنزوح أجبرها على التوقف. تقول: "منذ ذلك الحين لم أفتح اللابتوب مرة أخرى، اضطررت لاستبدال البحث الأكاديمي بالمقابلات الميدانية. حيث تحولت المقاهي إلى قاعات محاضرات، والشارع إلى مكتبة مفتوحة. أصبحنا نبتكر طرقًا جديدة للتعلم، لأنّ الخيار الآخر هو الاستسلام."
ورغم كل التحدّيات المحيطة، ترى بسمة في تخرجها معنى مختلفًا تمامًا: "تخرجي في هذا التوقيت ليس مجرد شهادة أكاديمية، بل إعلان أن للحياة في غزة وجهًا آخر غير الركام، وأننا قادرون على خلق مساحة صغيرة للإنجاز وسط الفوضى."
ناصر ليست استثناءً، بل مرآة لجيلٍ كامل من طلبة الدراسات العليا في غزة يحاولون إنقاذ أحلامهم من تحت الركام. فبينما حُرم نحو 88 ألف طالب جامعي من مواصلة تعليمهم وتعرّضت عشرات الجامعات والمدارس للتدمير، يشهد القطاع في المقابل إقبالًا لافتًا على برامج الماجستير والدكتوراه، مدفوعًا برغبةٍ في التمسك بالحياة واستعادة ما يمكن من مستقبلهم الأكاديمي. ففي مكانٍ تُهدم فيه الجامعات، ما يزال الطلبة يبنون أنفسهم من جديد.
من هؤلاء، أسيل أيمن (27 عامًا)، التي قررت التسجيل في الماجستير خلال النزاع، تقول بنبرة صارمة: "تعليمي هو آخر ما سأتنازل عنه في لحظات اليأس. أفتح كتبي وأذكر نفسي أنني ما زلت طالبة، وأنّ التعليم هو المنفذ الوحيد الذي يبقيني على اتصال بأحلامي."
تضيف: "أدرس إدارة الأعمال لأنني أؤمن أن المعرفة هي أقوى أدواتنا، حتى بين الأنقاض. هذا التخصص يمنحنا القدرة على إعادة تنظيم حياتنا وسط الانهيار الاقتصادي، وعلى ابتكار مشاريع صغيرة تساعدنا على الصمود".
في زاوية من منزلٍ مدمر في مدينة غزة، يجلس أيمن محمد (30 عامًا)، طالب الدكتوراه في الهندسة المعمارية، يحكي عن مسيرته الأكاديمية التي عطلتها الحرب: "كان موضوع بحثي يدور حول إطار علمي يربط بين البيانات الميدانية وسياسات التخطيط والمرونة المجتمعية، لكن النزاع قلب كل شيء. فقدت الخرائط وتلفت سجلات البلدية التي اعتمدت عليها، وتقطعت سبل التواصل مع الجهات المعنية."
ورغم الخسارة الكبيرة، وجد محمد في الدمار مادة بحثية حيّة: "بقدر ما عطلت الحرب عملي، منحتني مادة واقعية أكثر إلحاحًا. صرت أرى بحثي ليس كمجرد دراسة أكاديمية، بل كخطة إنقاذ لمستقبل هذه المدينة."
ويتابع الباحث: "كان يومي يبدأ بتأمين الماء والطعام ومتابعة الأمان، ثم أخصص ساعات للكتابة أو تحليل البيانات. عندما يهدأ الوضع، أعتمد على أدوات رقمية ومراسلات عن بُعد، وأحياناً على ضوء الهاتف فقط. تعلمت أن أتعامل مع الوقت بمرونة شديدة." أما اليوم، يعيد تعريف دور العلم في إعادة بناء غزة، مؤكداً أن الاستزادة من العلم لم تعد ترفاً فكريا؛ إنه ضرورة للبقاء.
منذ اندلاع الحرب، لم ينجُ التعليم العالي في غزة من الدمار. فقد أُغلقت جميع الجامعات ومراكز التدريب منذ أكتوبر 2023، وتعرّضت مؤسسات التعليم العالي الاثنتا عشرة في القطاع للتدمير أو لأضرار جسيمة، ما أثّر على نحو90 ألف طالب وطالبة.
وعلى إثر النزوح المتكرر واستخدام المراكز التعليمية كملاجئ، أصبحت كل جامعات غزة تقريبًا غير صالحة للتدريس، فيما تضررت الغالبية العظمى من المدارس والمنشآت التعليمية، ليتحوّل الحرم الجامعي إلى واحدٍ من أكثر رموز الحرب قسوة على المستقبل.
وبينما يحاول الباحثين التمسك بحلم التعليم وسط الحرب، تبذل المؤسسات الأكاديمية جهوداً كبيرة لمساندتهم. يقول ماجد تربان، أستاذ الصحافة وتكنولوجيا الاتصال بجامعة الأقصى: "الإقبال المتزايد على برامج الماجستير والدكتوراه في غزة يؤكد السردية الفلسطينية ورفض الانكسار. الطلبة يعملون بأقل الإمكانيات، رغم الدمار والإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل. فبالرغم من تدمير الجامعات والمكتبات، يصر الطلبة على التعلم."
يضيف: "الدوافع النفسية والمجتمعية لدى الباحثين كبيرة؛ فالتعليم يمنحهم مهرباً من ضغوط الحياة اليومية، ويساعدهم على معالجة حالتهم النفسية من خلال السعي للخروج من الأزمات بطرق متعددة، والدراسات العليا واحدة منها."
وحول كيفية تعامل الجامعات مع الصعوبات، يقول تربان: "التحديات كانت هائلة، لكننا تعاملنا بإيجابية ومرونة. ساعدنا الطلبة في الوصول إلى المصادر الإلكترونية، واعتمدنا على منصات مثل (زووم) و(مودل) للتدريس، وفتحنا مكتبات رقمية متاحة للجميع حتى أثناء الحرب. استمرت المتابعة الافتراضية لتخفيف الضغوط النفسية وضمان استمرارية التعليم."
ويضيف: "كل ما مررنا به يعكس ثقافة الوجود؛ الجامعات مصممة على استمرار العملية التعليمية لتخريج جيل جديد من المثقفين والباحثين، لأن مستقبل البحث العلمي في غزة واعد رغم كل ما دمره النزاع."
يتقاطع حديثه مع ما أكّد عليه المختص التربوي محمد صابر بأنّ الإقبال اللافت من الطلبة على الدراسات العليا يعكس وعي المجتمع الفلسطيني العميق بقيمة التعليم كأداة للاستمرار حتى في أقسى الظروف.
ويشير إلى ضرورة التعامل بجدية مع آثار انقطاع التعليم وانهيار البنية التحتية عبر تطوير حلول مثل التعليم الرقمي والاستفادة من الموارد المحلية. فالتعليم لا يقتصر على نقل المعرفة، بل يبني شخصية قادرة على مواجهة التحدّيات والمشاركة الفاعلة في المجتمع.
أما حازم سرور، منسق مبادرة ركن، فيوضح أن المبادرة أُنشئت لتوفير مساحة عمل آمنة ومجهزة بالكهرباء والإنترنت، تُمكّن الطلبة من حضور محاضراتهم عن بُعد ومتابعة أبحاثهم والتواصل مع مشرفيهم وسط الحرب.
ويستذكر بإعزاز إحدى قصص النجاح: "من أجمل النجاحات طالبة دكتوراه استطاعت تقديم بحثها في الموعد رغم أن بيتها تعرض للقصف، وهذا أعطى دافعاً قوياً لكل الطلبة ولنا لمواصلة عملنا."
اليوم، وبين ما تبقّى من خيامٍ وأنقاض، يمضي طلبة الدراسات العليا في غزة بخطواتٍ ثابتة نحو المستقبل، يحاولون استعادة ما سرقته الحرب منهم، لا انتظارًا لفرصة جديدة، بل إيمانًا بأن مواصلة البحث والمعرفة هي البداية الحقيقية لإعادة بناء الحياة.


