غزة: كيف اختفت الدواجن؟

غزة: كيف اختفت الدواجن؟

تجمّدت دمعة في عيني محمد أبو حجاج، الذي قضى عمره في تربية الدواجن؛ لكنّه اليوم يجد نفسه مضطرًا إلى رمي صيصانٍ صغيرة فقست للتو في الشارع، بعدما ضاقت به السُبل، وانقطعت الأعلاف، ولم يعد يملك ما يطعمها به أو ما يبقيها على قيد الحياة. حوله دجاج بيّاض يلفظ أنفاسه الأخيرة جوعًا، فيما تحوّلت مزرعته التي كانت تضج بالحياة إلى مقبرة صامتة.

يقول أبو حجاج بصوتٍ يغلبه الانكسار: "أصعب لحظة في حياتي كانت حين رأيت الصيصان تموت أمامي. شعرتُ كأنني أدفن عمري بيدي. هذه ليست مجرد طيور، هذه تعب السنين وحلم عائلة كاملة".

بلغت خسارته نحو "45 ألف دجاجة و250 ألف بيضة فقاسة"، ومبلغًا لا يقلّ عن 300 ألف دولار؛ لكن الخسارة الأعمق كانت معنوية؛ إذ فقد كدّ عمره، خمسةً وعشرين عامًا من الكفاح في عالم الإنتاج الحيواني. صنع خلالها لنفسه اسمًا بين كبار المربين، وبنى حلمه على أربعة عشر دونمًا من الأرض كانت تدر عليه الخير والعمل لمئات العمال.

اليوم لم يتبقَّ من ذلك الحلم سوى دونمين ونصف وبقايا أمل بأن تُفتح المعابر، وأن يُسمح بدخول الأعلاف والبيض الفقاس وسائر مستلزمات الحياة، ليُعيد أبو حجاج إعمار ما تهدّم من مزارعه وما تهشّم من قلبه.

يُردف: "يعز عليَّ أن أرى الفقاسات تموت قسرًا أمامي. خسارتي ليست في المال وحده، بل في عمرٍ قضيته أعمل على تربية الدواجن والحفاظ على إنتاجها، لأراها اليوم تموت بين يديّ. لكني لا أعرف المستحيل، سأعاود العمل في المزارع المتبقية فور دخول المستلزمات."

خلّفت الحرب الإسرائيلية التي تواصلت لعامين دمارًا واسعًا في قطاع الثروة الحيوانية بغزة. أغلقت مزارع الدواجن أبوابها واحدة تلو الأخرى، وتكبّد أصحابها خسائرٍ فادحة دفعت كثيرين إلى الإفلاس. توقّف الإنتاج المحلي الذي كان يوفر حدًّا من الاكتفاء الذاتي، فتحوّل آلاف العاملين في هذا القطاع إلى صفوف العاطلين عن العمل، وانعدم البيض والدجاج من الأسواق، فيما أصبح المتوفر منهما باهظ الثمن.

ووفق إحصائية وزارة الزراعة الفلسطينية، كان في قطاع غزة 2,500 مزرعة تنتج 36 مليون دجاجة سنويًا، إلى جانب 180 مزرعة للأمهات البيّاضة تنتج 250 مليون بيضة. وتسبب النزاع الذي اندّلع في أكتوبر 2023، بتوقف دائرة الإنتاج وتدمير 90% من المزارع، كما دُمّرت مصانع الأعلاف الخمسة التي كانت تُنتج 35 ألف طن سنويًا.

الآن، وبعد وقف إطلاق النار في أكتوبر المنصرم، وجدَ أبو محمد البريم، أحد مربّي الدواجن، نفسه مفلسًا وقد فقد مصدر دخله الوحيد. وحين حاول النهوض مجددًا، اصطدم بواقع مأساوي: لا مستلزمات، ولا قدرة على البدء من جديد.

يقول بينما تغالبه الدموع: "لقد ذهب الأغلى من كل مال الدنيا، زوجتي وأبنائي الاثنان. هل سأفكر في خسارة عمل؟ فاقت خسارتي المالية 40 ألف دولار، لكن حزني على عائلتي كان أشد".

كان البريم يمتلك مزرعة في جنوب القطاع، ومع أول أيام الحرب كان لديه 6,000 صوص نفق جميعها، إضافة إلى ما قيمته 90 ألف شيكل من الدجاج. وعلى مدار العدوانات الإسرائيلية السابقة بلغت خسائره 380 ألف دولار؛ غير أنّه كان يستطيع النهوض من جديد في كل مرة. 

لكنّه اليوم يُحدق في أطلال مزرعته ويُتمتم: "هل سنبدأ من جديد؟ وهل بقي في العمر متسع لنُعيد ما أفنينا العمر في بنائه؟"

ولم يختلف حال صلاح النجار، مربّي دواجن من خانيونس، الذي خسر مزرعته ومصدر دخله بفقدان 250 دجاجة كنّ وسيلة عمله الأساسية.

يقول بصوتٍ متحشرج: "ليست المرة الأولى التي أخسر فيها. تكبّدت آلاف الدولارات خلال الاعتداءات العسكرية الماضية، وها أنا أخسر من جديد. لم أكن وحدي، فقد كان معي 150 عاملًا، جميعهم اليوم بلا مصدر رزق."

يتابع وهو يتفقد ما تبقّى من مزرعته المهدّمة: "نشعر بخذلانٍ كبير. عامان مرّا ولم يصلنا أي دعم، ولا حتى خطة واحدة توضّح كيف يمكن إنقاذ هذا القطاع. تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا."

رئيس نقابة مربي الدواجن والإنتاج الحيواني في غزة، مروان الحلو، يقول إن النقابة لم تتلقَ أي دعم أو مساعدة من الجهات الحكومية أو المدنية منذ بداية الحرب.

ويوضح أن الخسائر التراكمية في قطاع الدواجن تجاوزت نصف مليار دولار منذ بداية الحرب، إذ كان القطاع ينتج من 3 إلى 4 ملايين دجاجة شهريًا، ومليون طبق بيض، قبل أن تتوقف عجلة الإنتاج بالكامل. بالإضافة إلى أن استعادة العمل بكامل طاقته تحتاج إلى سنوات من الإعمار وإعادة التأهيل، وفقًا للحلو، الذي يشير إلى أنّ 10% فقط من المزارع المتبقية لا تعمل حاليًا بسبب نقص البيض الفقاس والأعلاف.

ويبيّن أنّ 70% من مزارع الدواجن تقع شرق شارع صلاح الدين، وقد دُمّرت بالكامل، ولم يُسمح بالوصول إليها؛ لأنها تقع ضمن ما يُعرف بـ "المناطق الصفراء" وهي مناطق عازلة يفرض الاحتلال الإسرائيلي السيطرة عليها منذ وقف إطلاق النار في أكتوبر 2025، ويُمنع على المدنيين دخولها. وتمتدّ هذه المناطق على طول الحدود الشرقية للقطاع، حيث كانت قبل الحرب تشكّل الحزام الزراعي الأهم في غزة ومصدرًا رئيسيًا لإنتاج الدواجن والخضروات.

من جهته، يرى الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر أنّ تدمير قطاع الدواجن تسبب بانعدام الإنتاج المحلي وارتفاع كبير في الأسعار نتيجة ندرة المعروض المستورد، بعد نفوق 36 مليون دجاجة وانهيار البنية التحتية.

كما فقدَ آلاف العاملين في هذا القطاع الحيوي وظائفهم، مما ترك آثارًا اقتصادية مباشرة على عائلاتهم. ويشير أبو قمر إلى أنه مع تزايد الاعتماد على الاستيراد برز مؤشر خطير يتمثل في تراجع القيمة المضافة التي كان يحققها هذا القطاع الحيوي.

وكان القطاع الزراعي يُشكِّل 11 إلى 13% من الناتج المحلي الإجمالي في غزة، لكن الحرب قضت على جزء كبير منه، ففقد الاقتصاد المحلي أحد أهم مصادره الإنتاجية والاستراتيجية.

من الناحية القانونية، يلفت المحامي يحيى محارب، المختص في القانون الدولي، إلى أن استهداف الثروة الحيوانية أو منع إدخال الغذاء إليها يشكل انتهاكًا صريحًا لمبادئ القانون الدولي الإنساني، حتى وإن لم يرد نص محدد يحظر ذلك بشكل مباشر. فالقانون، كما يقول، يُلزم الأطراف المتحاربة بتجنّب إلحاق أي ضررٍ بالبيئة أو بمصادر الغذاء التي يعتمد عليها المدنيون.

ويشير محارب إلى المادة (55) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تحظر استخدام وسائل الحرب المسببة لأضرارٍ طويلة الأمد بالبيئة، موضحًا أن هذا المبدأ ينطبق كذلك على القطاع الحيواني الذي يُعدّ جزءًا من المنظومة البيئية والمعيشية، ما يفرض واجبًا قانونيًا وأخلاقيًا بحمايته من التدمير أو التجويع المتعمّد.

لم يكن نفوق 36 مليون دجاجة مجرد رقم في سجلات الخسائر الاقتصادية بغزة، بل فصلًا جديدًا في حكاية وجع تمتد من المزارع إلى موائد الناس، خاصة مع توقف إدخال الدواجن الحية والبيض الفقاس والأعلاف إلى القطاع، ما عمّق الأزمة وأفقد الأسواق مصدرها المحلي الوحيد.

في مزارع الدواجن بغزة، ماتت الطيور جوعًا، ومعها اندثر حلم الاكتفاء الغذائي الذي بناه المربّون على مدى عقود. فبعد عامين من الحرب وتوقف إدخال الأعلاف والبيض الفقاس، خلت المزارع من الحياة، وغاب الدجاج والبيض عن موائد الغزيين، لتبقى دورة الإنتاج ذكرى لمواسم كانت تفيض بالحياة.