غزة.. قطاع ينام فوق القنابل غير المنفجرة

غزة.. قطاع ينام فوق القنابل غير المنفجرة

يقف باسل العويطي أمام صاروخٍ لم ينفجر، غرس أنيابه المعدنية في الطابق الأرضي من منزله في خان يونس جنوبي قطاع غزة. يتأمل هيئته الباردة بعينين متجمدتين، وقلبه يضيق وهو يرى السلاح الذي اخترق بيتًا كان يومًا مأوى لعائلته وكادّ يحيله إلى كومة حجارة.

يقول العويطي: "نزحت في بداية الحرب إلى رفح جنوبي القطاع، وحينما سُمح لنا بالعودة إلى بيتي في خانيونس فوجئت بصاروخ لم ينفجر وقع في أعماق البيت، وبعد تفكيرٍ عميق قررت البقاء فيه رغم وجود الصاروخ".

كان يرمق الصاروخ من بعيد، يخشى أن يلمع ضوءه في لحظة. كل صوت في الليل وكل اهتزاز خفيف يُعيد إلى قلبه الخوف من أن ينفجر البيت بمن فيه. 

تواصل العويطي مع فرق الدفاع المدني للتخلص من الصاروخ الذي اتخذ من بيته مقرًا، فجاءه الرد: "لا نستطيع إخراجه، فلا معدات لدينا للتعامل معه". وهكذا ظلّ يعيش مع عائلته عامًا كاملًا تحت تهديد الانفجار المفاجئ.

لا يشكو العويطي وحده من مخلّفات الحرب الإسرائيلية، فآلاف الغزيين حُرموا من العودة إلى منازلهم أو حتى المكوث قُرب أنقاضها، بعدما تحوّلت القنابل غير المنفجرة إلى قنابلٍ موقوتة تترّصد حياتهم.

ووفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، هناك نحو 20 ألف جسم متفجر من مخلّفات الجيش الإسرائيلي لم تنفجر بعد. كما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى وجود 58 قطعة ذخيرة غير منفجرة في كل كيلومتر مربع، وهو معدل يُعد من الأعلى في مناطق النزاعات عالميًا.

في وسط القطاع، يقف نزار بكرون متأملًا صاروخًا استقرّ في عمق أرضه الزراعية في منطقة المغراقة. يقول إنه غادر المكان فورًا: "لم أتصل بالجهات المختصة لأنّ الصاروخ في قطعة أرض مفتوحة، لكنني لم أعد أجرؤ على الاقتراب منها خوفًا من انفجاره في أي لحظة".

منذ ذلك الحين، تحوّلت أرض بكرون التي كانت مصدر رزقه إلى مساحة مهجورة. يقول بأسى: "كنت أزرع الخضروات هناك، وكانت الأرض تكفيني وعائلتي، لكن بعد سقوط الصاروخ لم أعد أستطيع فلاحتها ولا حتى تأجيرها، وكأنها خرجت من الحياة".

ورغم المخاطر اليومية التي تواجه المدنيين، تحاول فرق الدفاع المدني التعامل مع هذه المتفجرات وفق الإمكانيات المحدودة المتاحة لها. المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، يؤكد أنّ الفرق واجهت كميات هائلة من المتفجرات أثناء عمليات الانتشال، لكن الإمكانيات المتاحة لا تكفي للتعامل معها.

يقول: "نفتقر للمعدات اللازمة ونتجنب الاقتراب من بعض الأجسام خشية الانفجار، لكننا نحاول التعامل وفق الإمكانات المتاحة عبر عزل المناطق الخطرة وتحذير السكان منها".

ويضيف بصل أن الدفاع المدني شكّل فرقًا ميدانية متخصصة لتوثيق مواقع الأجسام غير المنفجرة بالتعاون مع البلديات ووزارة الداخلية، رغم النقص الحادّ في الأدوات.

وحول التحذيرات التي يقومون بها، يتابع: "نبلغ السكان بضرورة عدم الاقتراب من الأجسام المجهولة، ونُصدر تحذيرات عبر الإذاعات المحلية ووسائل التواصل الاجتماعي."

ويُوضح بصل أنّ بقاء هذه المواد يعود إلى خللٍ في عملية التصنيع أو تعرضها للرطوبة؛ ما يجعلها عُرضة للانفجار في أي وقت، خصوصًا أنّها تنتشر بين المباني السكنية وفي الطرقات.

ويختم بالقول: "نناشد الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر إدخال المعدات الخاصة بإزالة الذخائر غير المنفجرة وتدريب طواقم جديدة، لأنّ الخطر أكبر من قدراتنا المحلية".

من جهة أخرى، تؤكد منظمات حقوقية دولية أن المخلفات غير المنفجرة تُشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، الذي يضمن حق المدنيين في بيئة آمنة ويحظر تعريضهم لمخاطر دائمة بعد انتهاء العمليات القتالية. 

وتشير هذه المنظمات إلى أنّ اتفاقيات جنيف تُلزم قوة الاحتلال باتخاذ جميع الإجراءات الممكنة لحماية السكان المدنيين، بما في ذلك تحديد مواقع المتفجرات القابلة للانفجار، وإزالتها، والإبلاغ عنها، لضمان عدم استمرار الخطر على الأرواح والممتلكات.

بدوره، يُشدّد المحامي حماد اضهير على أنّ المخلفات غير المنفجرة تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، وذلك وفقًا للمادة (51) للبروتوكول الإضافي الأول (1977) لاتفاقيات جنيف، التي تنص على أنه يجب على الأطراف أن تتخذ جميع التدابير الممكنة للحد من الأضرار التي تلحق بالمدنيين، بما في ذلك عدم ترك أسلحة أو متفجرات غير منفجرة تهدد حياة المدنيين.

كما تشير المادة (5) من اتفاقية حظر الألغام (1997) إلى وجوب التزام الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة لإزالة الألغام من المناطق المتضررة من النزاعات في غضون فترة معقولة بعد انتهاء النزاع.

تُشير قواعد بيانات تابعة للأمم المتحدة إلى أن أكثر من 53 شخصًا قد قتلوا حتى الآن جراء مخلفات الحرب من الذخائر غير المنفجرة، فيما يُرجّح كثير من العاملين في المجال أن العدد الفعلي أكبر بكثير؛ نظرًا لتقديرات تفيد أنّ حجم هذه المواد يتجاوز 7 آلاف طن. أمّا الخطر الأكبر، فهو ما يختبئ تحت الركام ولم يُكتشف بعد.

في المقابل، يوضح المتحدث باسم الإدارة العامة للأدلة الجنائية والاستجابة السريعة، محمود عاشور، أنّ الطواقم الفنية العاملة في إزالة المخلفات الحربية تعمل بأقصى ما تملك من إمكانات محدودة، رغم النقص الحادّ في الكادرين البشري والفني بعد فقدان عدد كبير من خبراء هندسة المتفجرات ونقص المعدات الحيوية.

يقول عاشور: "فعّلنا رقمًا ساخنًا للتبليغ عن المتفجرات المتبقية، لكننا لا نملك القدرة الكافية للاستجابة السريعة في معظم الحالات".

ويقرّ بأنّ فرق الإدارة "تتحرك أحيانًا دون الحدّ الأدنى من الوسائل الوقائية"، نتيجة غياب البدلات الواقية والمعدات المخصصة لتفكيك الذخائر، إضافة إلى نقص التدريب وضعف الإمكانات اللوجستية.

نتيجة لذلك، تضطر بعض الفرق للتعامل مع أجسام مشبوهة بأدوات بسيطة، في ظلّ منع الاحتلال الإسرائيلي دخول التجهيزات المصنفة ضمن المواد "مزدوجة الاستخدام" لقطاع غزة.

ويتابع عاشور: "نحتاج إلى معدات متخصصة وأطقم مؤهلة وعربات خاصة لنقل الذخائر، وحفارات ومستودعات آمنة بالتنسيق مع الصليب الأحمر وتحت إشراف دولي".

من جانبها، تقول المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة، أماني الناعوق، إنّ عمل فرق اللجنة يقتصر حاليًا على التوعية والإرشاد بمخاطر الأجسام غير المنفجرة. تقول: "نعمل على تدريب موظفي ومتطوعي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني لعقد جلسات توعوية مجتمعية حول أشكال هذه الأجسام والأماكن التي قد تتواجد فيها".

وتضيف أنّ اللجنة تقدم الدعم للسلطات المحلية عند الطلب عبر توفير المعدات والتدريب اللازم للتعامل مع هذه المواد، لكنها لا تتولى عمليات الإزالة الميدانية بنفسها، إذ تبقى تلك المسؤولية على عاتق الجهات المحلية التي تفتقر إلى الإمكانات.

وتوضح أنّ المساعدات التي تقدمها اللجنة تقتصر غالبًا على معدات الحماية الشخصية، ومواد التوعية، ودورات تدريبية قصيرة الأمد تستهدف فرق الدفاع المدني والعاملين في البلديات.

خبير إزالة المتفجرات نك أور، في منظمة Humanity & Inclusion، يقول إنّ إزالة الألغام والمواد المتفجرة من قطاع غزة قد تستغرق من 20 إلى 30 عامًا على الأقل، مشيرًا إلى أن عمليات البحث عن الأجسام المشبوهة طويلة ومعقدة، مما يجعل غزة "حقل ألغام مفتوح".

الحرب على قطاع غزة لم تنتهِ بانتهاء القصف، إذ تركت وراءها أطنانًا من الذخائر والمتفجرات التي ما زالت تُهدد حياة السكان، بينما تبقى الجهود المحلية محدودة، والاستجابة الدولية بطيئة. وبينما يترقب الغزيون وصول فرق الإزالة والمعدات المتخصصة، يبقى الخطر حاضرًا في كل شارع وركام، ينتظر من يواجهه لا من يراقبه من بعيد.