أن تؤجل علاجك: معامل تصنيع الأسنان مدمرة

أن تؤجل علاجك: معامل تصنيع الأسنان مدمرة

تنظر حنان سلامة (42 عامًا) إلى نفسها في المرآة، تُحدّق في أسنانها والفراغ الذي تركه سقوط نابها الجانبي، فراغٌ نال من ثقتها بنفسها. في حضور الآخرين تحاول ألا تضحك كثيرًا، فتغطي فمها تلقائيًا كلما تحدثت خشية أن يلمح أحدهم ذلك النقص. ومع مرور الوقت بدأت تتعايش مع هذا الفراغ، غير أنّه ظلّ يزعجها كلما نظرت في المرآة، يشوّه ابتسامتها ويذكّرها بما فُقد ولم تُتح لها فرصة لتعويضه.

تستذكر سلامة تلك اللحظة في يناير 2024، حين فوجئت بتفتت نابها الأيمن، ولم تجد أي عيادة أسنان تعمل في شمال قطاع غزة، إذ كانت الحرب الإسرائيلية في أوجها. انتظرت لأشهر حتى عاد طبيبها إلى العمل، لكنّها فوجئت مجددًا بشحّ تركيبات الأسنان في القطاع وبارتفاع أسعارها بشكلٍ غير مسبوق.

تقول وهي تشير إلى الفراغ في فمها: "لقد أنهكت الحرب صحتنا تمامًا، وخصوصًا صحة أسناني. إلى جانب السن المفقود، أعاني تسوّسات في أكثر من سن، وقد أجريت حشوات لثلاثةٍ منها، لكن تركيب سنّ جديد سيكلفني الآن أضعاف السعر القديم، ولن يكون بنفس جودة المتوفر قبل الحرب".

سلامة ليست حالة استثنائية، فقصتها تعكس واقعًا يعيشه كثير من سكان غزة. فقد أصبحت تركيبات الأسنان في القطاع نادرة بسبب تدمير العيادات وتعطّل معامل التصنيع ومنع دخول المواد اللازمة بفعل النزاع الذي امتدّ لعامين وخلّف آثارًا فادحة، أما القليل المتوفر منها فأسعاره باهظة إلى حدٍّ يعجز معظم الناس عن تحمّله، ما دفع كثيرين إلى تأجيل علاجهم أو التعايش مع الألم.

وتشير تقديرات طبيّة إلى أن أمراض الفم والأسنان أصبحت من أكثر المشكلات الصحية شيوعًا في قطاع غزة، إذ تُظهر دراسات محلية أن نحو أربعة من كل خمسة أشخاص يعانون من تسوّس الأسنان أو التهابات اللثة بدرجات متفاوتة، فيما ازدادت الحالات سوءًا مع الحرب بسبب توقف الرعاية المنتظمة ونقص المستلزمات الطبية. ويقدّر أطباء الأسنان أن مئات الآلاف من السكان، من أصل أكثر من 2.3 مليون نسمة، بحاجة إلى علاج عاجل أو تركيبات تعويضية لا تتوفر حاليًا في القطاع.

ووفقًا لبحثٍ علمي منشور في مجلة دولية متخصصة بطب الأسنان، فإنّ الحرب على قطاع غزة أوقعت أضرارًا مدمّرة على قطاع طب الأسنان في غزة، بعد تدمير العيادات وفقدان المستلزمات الأساسية للعمل.

كما أدّى نقص الوصول إلى الرعاية السنية إلى تفاقم أمراض الفم والأسنان، فيما أسهم الاعتماد على الأغذية المعلّبة ونقص الأطعمة الطازجة في انخفاض مستويات الفيتامينات وارتفاع حالات التهاب اللثة وتسوس الأسنان.

ناصر عبد الله (55 عامًا) فقَدَ ضروسه واحدًا تلو الآخر خلال عامين من النزاع (2023-2025). فيما لم تسمح ظروفه المادية له بمراجعة طبيب متخصص، فظلّ الفراغ في فمه يرافقه مع كل وجبة.

يُعدد ناصر عبدالله ضروسه التي تساقطت واحدًا تلو الآخر خلال الحرب، ثم يروي ما حدث: "ذهبت قبل أشهر من نهاية الأحداث إلى الطبيب بعد ألمٍ شديد في أحد الضروس المتبقية، فأخبرني أنني بحاجة إلى زراعة أسنان، لكن هذا غير متاح حاليًا في غزة بسبب منع الاحتلال الإسرائيلي دخول مواد صناعة الأسنان والمعدات اللازمة."

أما دنيا سمير (26 عامًا)، فقد أصيبت بعد قصف منزل جيرانهم، ما أدى إلى كسر سنها الجانبي الأيسر. ومع مرور الوقت خسرت ما تبقى من جذور السن، قبل أن تزور طبيب الأسنان بعد ترددٍ طويل.

ترك الفراغ في فمها أثرًا واضحًا على ملامحها، فبدت أكبر من عمرها. تقول بصوتٍ منهك: "أثّر ذلك كثيرًا على جمال مظهري، وعلى اتزاني الداخلي". تعمل حنان معلمة للأطفال، وغالبًا ما يعلّقون على ابتسامتها ويسألونها عن سبب غياب سنّها، فتجيبهم بهدوء، وقد اعتادت أن يراها الصغار كما يرون غيرها ممن فقدوا أسنانهم بعد إصابات مباشرة أو نتيجة شظايا القصف.

حاولت سمير تركيب سن جديد، لكنها فوجئت حين أخبرها الطبيب بوجود شحّ كبير في التركيبات وصعوبة في توفيرها، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكلٍ هائل. لم تصدّق المبلغ الذي طُلب منها مقابل التركيب، فقررت تأجيل الأمر إلى حين دخول المواد اللازمة وانخفاض التكلفة.

طبيب الأسنان محمد الخالدي يؤكد أن النزاع تسبب في تدمّير منظومة طب الأسنان في غزة، إذ يشهد القطاع نقصًا حادًا في مواد التركيبات وندرة في أهم المستلزمات مثل حشوات العصب، التي وصل سعر المتاح منها إلى 500 شيكل.

يقول الخالدي إنه نقل معداته إلى مكانٍ آمن خوفًا من تدميرها، ونجح في الحفاظ عليها، لكنّه يواجه صعوبة في توفير الحشوات والمواد التجميلية مثل البورسلان والزيركون. ويضيف أنّ معظم عمله اليوم يقتصر على خلع الأسنان والحشوات المتاحة بشكلٍ جزئي فقط.

من جانبه، يوضح مدير معمل النخالة للأسنان في غزة، حسن النخالة، أنّ المعمل استأنف عمله في يونيو 2024 بعد توقفٍ دام أشهر، غير أنّ أسعار المواد الأساسية قفزت إلى أضعاف مستوياتها السابقة؛ فقد ارتفع سعر الجبص الحراري من 400 إلى 2700 شيكل، وسعر الكيلوغرام من المعدن المستخدم في تركيبات البورسلان من 500 إلى 2500 شيكل.

ويشير النخالة إلى أنّ المعمل يواجه صعوبات كبيرة في تصنيع التركيبات المتحركة، التي تحتاج إلى أجهزة خاصة تعمل بدرجات حرارة محددة، ومع أزمة الكهرباء اضطر الطاقم لاستخدام الحطب في الغلي، ما أثر على دقة النتائج وجودة المنتج.

ويضيف: "نحتاج أيضًا إلى الغاز، لكن مع انعدامه وارتفاع ثمنه لجأنا لاستخدام القطن المبلل بالكحول كمصدر لهب لتشميع الأسنان، وهي بدائل بدائية لا تفي بالاحتياجات الفنية المطلوبة."

ويتابع أن فرن التلبيد المستخدم في تصنيع تركيبات البورسلان والزيركون يعتمد على الكهرباء بشكلٍ متواصل، وإذا انقطعت أثناء عملية الخبز الحراري التي تستغرق نحو 25 دقيقة، يضطر الفريق لإعادة التصنيع من البداية، مما يهدر الوقت والمواد ويقلل جودة التركيبات.

ويحذر النخالة من أن معامل الأسنان في غزة مهددة بالتوقف الكامل إذا لم تُوفّر المواد الأساسية بشكلٍ عاجل، خصوصًا شحنات الجبص الحراري والمعادن الخاصة بتصنيع تركيبات البورسلان، إذ لا يتوفر بديل عنها محليًا.

وبينما تتفاقم أزمة الرّعاية الصحيّة في غزة، تؤكد القوانين الدولية مسؤولية الاحتلال عن حياة المدنيين، إذ تنصّ اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على إلزام القوة القائمة بالاحتلال بتوفير الرعاية الصحية للسكان الواقعين تحت سلطتها، كما يؤكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مادته الثانية عشرة على حق الإنسان في التمتع بالصحة الجسدية والعقلية.

العجز عن العلاج بات وجهًا آخر للحرب في قطاع غزة؛ فترميم الأسنان لم يعد مسألة تحسين مظهر أو خدمة تجميلية، بل حاجة أساسية حُرم منها الآلاف. خلف كل فراغ في فمٍ أو ابتسامةٍ غائبة، تتجلى معاناةٌ يومية يخوضها الناس لاستعادة أبسط مظاهر الحياة: القدرة على الأكل والابتسام دون ألم.