الركام يلوّث هواء غزة ويشعل أزمة بيئية مزمنة

الركام يلوّث هواء غزة ويشعل أزمة بيئية مزمنة
الركام يلوّث هواء غزة ويشعل أزمة بيئية مزمنة

يجلس سهيل رشيد (44 عامًا) على حجر صغير أمام أنقاض بيته في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، يحدّق في الركام المبعثر أمامه. يُثقله مشهد البيت الذي انهار، وكأنّما يرى عمره ينهار معه، يستعيد أيام الفرح والحزن التي عاشها تحت سقف ذلك البيت، ويشعر بغصّة وهو يتأمل ثلاثة طوابق كانت ثمرة سنوات من الكدّ تحوّلت إلى تراب. تباغته فجأة موجة غبار خانقة، فيمسك صدره ويدخل في نوبة سعالٍ حادة.

نزح رشيد إلى وسط القطاع خلال الحرب الإسرائيلية التي اندلعت في أكتوبر 2023، ثم عاد بعد وقف إطلاق النار في أكتوبر الجاري ليجد منزله مدمّرًا بالكامل، باستثناء غرفة وحيدة صمدت جدرانها. اصطحب ابنه لتنظيف الركام وتجهيز الغرفة لعودة العائلة، لكن أيامًا قليلة من العمل وسط الغبار كانت كافية لإصابته بحساسية تنفسية.

يقول بصوتٍ متقطع: "رائحة الغبار الممزوجة بالبارود تملأ المكان. حاولت ارتداء كمامة، لكن لا فائدة، فذهبت إلى الطبيب حين لم أعد أحتمل الألم. هناك اكتشفت أنني مصاب بحساسية قد يصعب التعافي منها في ظلّ الوضع القائم، وسط مدينة يغمرها الركام."

حال رشيد لا يختلف عن كثير من الغزيين الذين لم تترك لهم تداعيات الحرب وتدميرها الهائل خيارًا سوى العيش فوق أنقاض مدينتهم. لكن الغبار المتصاعد من الحجارة المحطمة، ورائحة البارود العالقة في الهواء، حوّلت التنفس إلى مأساة يومية وأصابت كثيرين بأمراض تنفسية. 

وبحسب منظمة الصحة العالمية، تشكل العدوى التنفسية الحادة نحو 62% من إجمالي الأمراض المُبلّغ عنها في غزة حتى أغسطس 2025، ما يعكس تفاقم الأزمة الصحية الناجمة عن الهواء الملوث والغبار المنتشر، فلا مكان آمن يحميهم من هواء ملوث يمتزج فيه الغبار بالرماد وبقايا المواد المتفجرة.

في الإطار، تُشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، تراكم في غزة ما يزيد على 61 مليون طن من الركام خلّفتها الغارات الجوية والعمليات العسكرية المتواصلة منذ عام 2023، في واحدة من أضخم كوارث الدمار العمراني في التاريخ الحديث. وتشير التقديرات الأممية إلى أنّ إزالة هذا الركام ستتطلب سنوات طويلة ومئات ملايين الدولارات، إذ يحتاج جمعه ونقله إلى مساحات شاسعة قد تعادل نحو ألف ملعب كرة قدم.

في حي تل الهوى جنوب مدينة غزة، يعيش الطفل براء جاسر (10 أعوام) مع عائلته في خيمةٍ نُصبت بجوار منزلهم المدمّر. يعاني براء من الربو، وكل هبّة ريح تحوّل تنفسه إلى صراع. تتكرر نوبات السعال، ويصدر عن صدره صفيرٌ حادّ مع كل نفس، ولا يهدأ عطسه طوال النهار. 

في الليل، ينام على بطانية مهترئة بينما تظلّ والدته ساهرة بجانبه، تخشى أن تداهمه نوبة جديدة. تقول وهي تمسح على شعره: "لا خيار لدينا سوى العيش هنا. طفلي يختنق من الهواء الملوث، لكننا لا نملك مكانًا آخر. حاولت نقله إلى مكان أنظف، لكن الغبار في كل مكان، وحتى الأدوية باتت نادرة. أشعر بالعجز وأنا أراه يكافح ليتنفس".

نداء صالح (22 عامًا) انتقلت إلى شقة في عمارة مهدّمة جزئيًا بحي الرمال، بعد أن سوي مربعها السكني بالأرض. تقف على شرفتها في الطابق الرابع، تنظر إلى الركام الذي يطوّقها وتقول: "منذ سكنت هنا بدأت أعاني من التهابات جلدية وانتشار الحبوب في وجهي، إلى جانب التهابات تنفسية بسبب الحساسية من الغبار. أحاول البحث عن سكن آخر، لكن لا خيارات أمامي."

الأطباء يؤكدون أن ما يحدث ليس مجرد تهيّج عابر. يقول اختصاصي الأمراض الصدرية أحمد الربيعي إن "البقاء لفترات طويلة وسط الركام يسبب التهابات مزمنة في الشعب الهوائية، بينما يؤدي التعرض القصير لغباره إلى التهابات رئوية حادة تستدعي تدخلاً طبيًا فوريًا". 

الجسيمات الدقيقة الناتجة عن تفتت الإسمنت والزجاج والمعادن تدخل مباشرة إلى الرئتين، ما يفاقم الأعراض لدى المصابين بأمراض مزمنة كالربو والحساسية، وقد يؤدي إلى تدهور مفاجئ في وظائف الرئة. 

يُضيف الربيعي أنّ: "الهواء في المناطق المدمرة بات مشبعًا بذرات من المواد المتفجرة والبارود، إلى جانب الفطريات والبكتيريا التي تنمو على الأنقاض، وكلها تزيد خطر الالتهاب وتضعف الجهاز المناعي". 

ويشير إلى أنّ المستشفيات في القطاع تستقبل يوميًا عشرات الحالات التي تعاني من ضيق حادّ في التنفس أو التهابات صدرية متقدمة، في ظلّ نقص الأدوية وأجهزة التنفس الاصطناعي؛ ما يجعل التعامل مع هذه الحالات أكثر تعقيدًا وخطورة.

لكن تأثير الركام لا يتوقف عند حدود الضرر الصحي. فبحسب المختص البيئي نزار الوحيدي، يُشكّل الركام خطرًا بيئيًا مركّبًا يمتد إلى الهواء والتربة والمياه. وبينما يراه الناس مجرّد أنقاض صامتة، فإنه يخفي في داخله حياة أخرى غير مرئية؛ فبين كتل الإسمنت المتهالكة تختبئ القوارض والحشرات، وتنبعث روائح خانقة من مواد متحللة وركام محترق.

يقول الوحيدي إن هذه الكتل المدمّرة تحتوي على مواد سامة وأحيانًا مشعة، ما يجعلها تهديدًا صامتًا للصحة العامة وسلامة الخزان الجوفي. ويشير إلى أن التلوث الناتج عن الركام لا يقتصر على موقعه، بل ينتشر عبر الهواء والمياه السطحية، خصوصًا في ظلّ اختلاط مياه الصرف الصحي بخطوط المياه المتفجرة، مما يؤدي إلى تلويث الخزان الجوفي مباشرة.

ويحذر من المواد العضوية المتحللة تحت الركام التي قد تسبّب حرائق صغيرة متكررة، تملأ الأجواء برائحة الاحتراق وتزيد من صعوبة التنفس في المناطق المنكوبة.

ورغم أن التأثير المناخي للركام ليس فوريًا، فإنّ تراكم الغازات المنبعثة من احتراق المواد وتدمير الأجهزة المنزلية، مثل غاز "الإسترريون" المستخدم في الثلاجات، يُسهم في زيادة الانبعاثات وتآكل طبقة الأوزون، ما يفاقم آثار التغير المناخي محليًا.

في غزة اليوم، لا يواجه السكان تبعات الحرب وحدها، بل يعيشون وسط أزمةٍ بيئية وصحية تتفاقم كل يوم. الهواء الذي يملأ أنفاسهم محمّل بذرات الغبار والبارود، فيما تتحوّل المدينة إلى مسرحٍ مفتوح لانبعاثاتٍ وغازاتٍ تُعمّق جراح المناخ الهش أصلًا. 

وبين الأنقاض التي غطّت كل شيء، يحاول الغزيون التكيّف مع واقعٍ جديد تتقاطع فيه الكارثة الإنسانية مع الانهيار البيئي. ومع كل شهيقٍ يختنق بالغبار، تتبدّى حقيقة أن الحرب في غزة لم تدمّر الحجارة فقط، بل عطّلت أيضًا دورة الحياة نفسها.