غزة: مرضى السكري يُجبرون على تلقي إنسولين فاسد

غزة: مرضى السكري يُجبرون على تلقي إنسولين فاسد

يجلس رامي نوفل (50 عامًا) على فراش أرضي داخل خيمة نزوحه في دير البلح وسط قطاع غزة، وجهه شاحب ويداه ترتجفان وهو يمسك بمظروف صغير يخبئ فيه حقن الإنسولين التي فقدَت صلاحيتها منذ زمن بينما يحاول أن يوازن بين ارتفاع السكر في دمه وانخفاض صبره على قسوة الحياة.

يقول بصوتٍ تغلب عليه المرارة: "كنت أعيش مع أسرتي المكوّنة من ستة أفراد، لكن ابني استُشهد قبل عام، وهذا ضاعف معاناتي مع مرض السكري الذي أُصبت به منذ أربع سنوات. أستخدم الإنسولين بشكلٍ دائم، لكن في الخيمة لا يمكن حفظه كما يجب. أضعه في مظروف داخل حقيبتي وأضطر لإعادة استخدام الإبر أكثر من مرة."

يصمت نوفل قليلًا، ثم يتابع وهو يحدّق في الأرض: "مرّت عليّ فترات أغيب فيها عن الوعي ليومين متواصلين، ومرة دخلت في غيبوبة بسبب ارتفاع السكر. قبل الحرب، كان معدل السكر التراكمي لديّ 15%، ومنذ عامين لم أفحص نهائيًا لأن أجهزة الفحص غير متوفرة".

يوضح الرجل أن نسبة السكر التراكمي في دمه بلغت 15%، وهي نسبة خطيرة مقارنة بالمعدل الطبيعي (6.5%)، مما يجعله عرضةً دائمًا لمضاعفات خطيرة مثل الغيبوبة وتلف الأعصاب والأوعية الدموية. وإذا كان هذا وضعه قبل الحرب، فقد ازداد سوءًا الآن مع ندرة الدواء، وفساد الإنسولين، وانعدام أجهزة الفحص.

ثم يرفع ذراعه التي امتلأت بعلامات الحقن ويقول: "قبل ثلاثة أشهر أجريت عملية بسبب ظهور دمل لي نتيجة استخدام إبر منتهية الصلاحية. جرعتي اليومية كانت بين (35 -45 وِحدة انسولين)، لكن اليوم لا أعلم إن كان ما أستخدمه ينفع أو يضر". وتُعد تلك الجرعة متوسطة إلى مرتفعة، إذ تُشير إلى أنّ جسمه يحتاج كمية كبيرة من الإنسولين للسيطرة على المرض؛ ما يعكس حالة متقدمة من السكري أو صعوبة في استجابة جسده للعلاج.

وعلى غرار نوفل، يعيش في قطاع غزة أكثر من 75 ألف مريض سكري، وفق ما كان مسجلاً في وزارة الصحة قبل اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، ويفتقر معظمهم اليوم إلى العلاج المنتظم والإنسولين وأجهزة الفحص، بينما تفتقر سجلات الوزارة لتحديث الأرقام نتيجة انهيار البنية التحتية للقطاع الصحي.

على مَقربة من خيمته، تعيش جملات وادي (44 عامًا)، أم لثمانية أبناء، وقد أثقل الحزن قلبها بعد استشهاد ابنها البالغ من العمر 25 عامًا قبل نحو عام، ولم تتمكن من دفنه أو معرفة مصير جسده حتى الآن.

تقول بصوتٍ مبحوح: "كان وزني 85 كيلوغرامًا، لكنه هبط إلى 60 فقط بسبب نقص الإنسولين وقلّة الطعام خلال المجاعة في مايو الماضي. كنت أحقن نفسي خمس مرات يوميًا، لكن خلال تلك الفترة لم أجد الدواء، وكان الإنسولين فاسدًا. كنت أحفظه في كأس ماء بارد، ومع ذلك لم يفدني كأنني أحقن نفسي بماءٍ لا يغيّر شيئًا".

تسترجع وادي بداية معركتها مع المرض منذ 26 عامًا، حين اكتشفت إصابتها بالسكري أثناء حملها بعد أن فقدَت طفلها عند الولادة. منذ ذلك الحين أصبحت الإبر رفيقًا دائمًا في حياتها، لكنها اليوم تُواجه معضلة كبيرة وهي الإبر الفاسدة. تقول: "بعد تلقي إبرة فاسدة، ظهر دمل كبير في بطني، ومع ذلك أضطر لاستخدام نفس الإبرة أكثر من مرة يوميًا لأنها الوحيدة المتاحة لي".

تفاقمت حالتها سوءًا مع الوقت، فمستويات السكر في دمها لا تنخفض حتى مع الحقن؛ ما دفعها إلى زيارة الطبيب الذي صدمها بالحقيقة الصارخة: "الإبر منتهية الصلاحية ولا تعطي أي فعالية للجسم."

على نحوٍ غير بعيد، في مركز إيواءٍ في النصيرات وسط القطاع، تحاول نجوى الغزالي (42 عامًا) إنقاذ ابنها حمزة (19 عامًا)، المصاب بالسكري منذ عشر سنوات. تقول: "الجو في الخيمة خانق نهارًا من شدة الحر، وبارد ليلًا مع رطوبة وندى يبللان الأغطية والهواء. نحاول حفظ الإنسولين بلفّه في مِنديل مبلول ووضعه داخل كيس بلاستيكي، لكن الحرارة العالية تُفسده بسرعة. العلاج شبه منتهٍ، والنتائج كارثية."

تمسح الغزالي دموعها وهي تتابع: "نشتري شرائح الفحص بصعوبة وبأثمان باهظة لمراقبة السكر لدى حمزة، سيما أنه أصيب بالمرض منذ أن كان طفلًا صغيرًا". 

ويحتاج حمزة إلى خمس حقن من الإنسولين يوميًا، لكنها لا تكفي أحيانًا، إذ تضطر والدته إلى زيادة الجرعة عندما يتناول قطعة بسكويت أو يشرب كوب عصير، فيصل العدد إلى ست حقن في اليوم. ومع فساد الدواء، بدأت تظهر دمامل مؤلمة في قدميه، تفاقمت مع الوقت، وتركته يعاني وجعًا لا يهدأ منذ أشهر طويلة.

مديرة دائرة الأمراض المزمنة في وزارة الصحة، علا النجار، تُقرّ بأنّ التعامل مع مرضى السكري في غزة بات تحديًا متفاقمًا، بعد أن دمّرت الحرب البنية التحتية التي كانت تحفظ سجلاتهم وتتابع حالتهم الدورية. وتشير إلى أنّ الوزارة لا تمتلك اليوم بيانات محدثة أو أرقامًا دقيقة حول المصابين، بعدما خرجت برامج المتابعة الإلكترونية عن الخدمة.

غياب هذه المنظومة المعلوماتية جعل آلاف المرضى بلا سجل واضح أو متابعة منتظمة، إذ تعمل اليوم خمس عيادات فقط من أصل 14 عيادة كانت مخصّصة لمتابعتهم في محافظة غزة بسبب تدّاعيات النزاع؛ ما يترك الغالبية في مواجهة مباشرة مع نقص العلاج والخدمات الصحية.

غالبية المصابين بالسكري في غزة – بحسب النجار – ينتمون إلى النوع الأول من المرض، وهو النوع الذي يتوقف فيه الجسم تمامًا عن إنتاج الإنسولين، ما يجعل المرضى معتمدين عليه كليًا للبقاء على قيد الحياة. أمّا النوع الثاني، فيحدث عندما يفقد الجسم قدرته على استخدام الإنسولين بشكل فعّال، ويمكن للمصابين به الاعتماد على الحبوب لفترة محدودة، لكنّهم في مراحل مُتقدمة يضطرون إلى الحقن بالإنسولين أيضًا، خصوصًا حين تفشل الأدوية في ضبط المؤشرات الحيوية.

الحرب بدورها أحدثت شللًا شبه تام في المنظومة العلاجية؛ إذ دمّر القصف عددًا من العيادات، واضطر المرضى لقطع مسافات طويلة للحصول على علاج نادر أو غير متوفر أصلًا. وما تبقّى في المخازن، كما تقول، وصل إلى مراحله الأخيرة أو أصبح غير صالح للاستخدام، ما يدفع بعض المرضى لاستخدام الإبر أكثر من مرة، فتظهر التهابات ومضاعفات خطيرة.

وتشير النجار إلى أنّ الإنسولين من الهرمونات الحساسة للحرارة، وأنّ انقطاع الكهرباء والنزوح إلى الخيام جعلا حفظه بشكل آمن شبه مستحيل. تضيف: "الكثير من المرضى لا يدركون أنّ الإنسولين الذي لديهم تالف، فيستمرون باستخدامه، ما يؤدي إلى حالات من الحموضة الكيتونية، وهي حالة خطيرة تستدعي إدخال المريض إلى العناية المركزة."

ورغم محاولات المرضى الحفاظ على أدويتهم عبر لفّها بقطع قماش مبللة أو وضعها في أكياس ماء بارد، إلا أنّ تلك الطرق قد تسبب تلوث الإنسولين بدلًا من حمايته. ومع ذلك، ترى النجار أن الوزارة تحاول الاستفادة من تجارب دول مثل السودان التي مرّت بظروف مشابهة واضطرّت لاعتماد طرق بديلة مؤقتة للحفظ؛ لكن تلك الحلول تظلّ محدودة أمام واقعٍ يفتقر لأبسط مقومات البقاء.

بدورها، تؤكد الدكتورة الصيدلانية مريم الغندور أن طريقة تخزين الإنسولين تلعب دورًا حاسمًا في الحفاظ على فعاليته. وتوضح أن العبوات غير المفتوحة يجب حفظها في الثلاجة بين درجتي 2 و8 مئوية، مع تجنّب تجميدها لأن ذلك يفسد تركيبة الدواء تمامًا.

وتشير إلى أنّه بعد فتح العبوة يمكن الاحتفاظ بالإنسولين في درجة حرارة الغرفة لمدة لا تتجاوز شهرًا واحدًا، شرط أن يبقى بعيدًا عن الحرارة المرتفعة وضوء الشمس.

وفي ظلّ غياب التبريد، كما هو الحال في خيام غزة، توصي الغندور بوضع الإنسولين في مكان بارد ومظلل قدر الإمكان، وتقول إن تغطيته بفوطة مبللة قد تساعد مؤقتًا على تبريده إذا لم تتجاوز الحرارة 30 مئوية. 

لكنّها تحذّر من أن درجات الحرارة الأعلى تُفقده فعاليته تدريجيًا، ما يعرّض المرضى لمضاعفات خطيرة مثل الحماض الكيتوني السكري. كما تحذّر من إعادة استخدام الإبر أكثر من مرة لما تسببه من التهابات وعدوى وتلف في الجلد.

ويُحذّر مختصون من أن تجميد الإنسولين أو حقنه وهو بارد يؤدي إلى انقباض الأوعية الدموية وضعف امتصاص الدواء، فيما يتسبب تعريضه للحرارة الشديدة أو التجمد الكامل في تلف تركيبته وفقدان فعاليته تمامًا. 

كما أنّ الطرق البديلة البدائية لحفظه، مثل لفّ العبوات بفوط مبللة أو وضعها في أكياس ماء، لا تحميه من الفساد في ظل حرارة الخيام، ما يجعل الجرعة اليومية بلا جدوى ويعرّض المرضى لخطر الحماض الكيتوني أو الغيبوبة.

في هذا الواقع القاسي، تبقى حياة الآلاف من مرضى السكري معلّقة بخيوط الأمل والحقن الفاسدة. بين خيام النزوح وحرارة الصيف اللاهبة، يتحوّل كل حقن إنسولين إلى اختبارٍ جديدٍ للبقاء.