فوضى السوق: الأسعار على كفّ التجار

فوضى السوق: الأسعار على كفّ التجار

يتجوّل محمد سمير (47 عامًا) في سوق مخيم النصيرات في قلب قطاع غزة، بين ضجيج المتسوقين وأصوات الانفجارات التي كانت تتردّد في الخلفية. كان ذلك بعد أيام قليلة من سريان وقف إطلاق النار المؤقت، حين ساد اعتقادٌ بأنّ الأوضاع بدأت تستقرّ. مرّت نحو ساعة على سماعه دويّ القصف، والأخبار تتوارد عن عودة الحرب، فبدأ يلاحظ ارتفاعًا في أسعار البضائع.

شعر سمير بالتوتر وهو يرى أعداد الناس تتزايد في السوق، فاتجه إلى أحدّ المتاجر التي تُتيح خدمة الدفع الإلكتروني؛ ليشتري مؤونة غذائية تكفيه لأسابيع، خوفًا من انقطاع السلع مُجددًا.

كان آخر نزوح لسمير من مخيم جباليا شمال قطاع غزة في مايو الماضي، نزوحًا وصفه بالأشدّ على نفسه، لأنّه لم يعد بعده إلى منزله، وبقي نازحًا في المحافظة الوسطى يعيش في ظروف متقلبة وصعبة. وقد ترك النزوح أثرًا مباشرًا على وضعه المعيشي، إذ فقد جزءًا من عمله ومصدر دخله، ليجد نفسه يعتمد على راتبٍ لا يتجاوز 1400 شيكل بالكاد يغطي نفقاته اليومية.

يقول بينما يعدّد لزوجته فروق الأسعار بعد اختراق وقف إطلاق النار: "كانت الأسعار طبيعية إلى حدٍ ما، وكنت أنتظر أن تنخفض لأشتري أكثر. لكن بمجرد انقلاب الوضع ارتفعت الأسعار ببضع شواكل قليلة، دفعت 60 شيكل إضافية عن المعتاد لنفس الكمية من السلع خلال ساعة فقط".

منذ العاشر من أكتوبر 2025 دخل وقف إطلاق النار المؤقت حيّز التنفيذ، فاستقرّت حركة المعابر، واستمرّ تدفق البضائع التجارية والمساعدات الإغاثية إلى غزة. غير أنّ الأصناف ظلّت محدودة ولم تسمح الكميات بتغطية كامل احتياجات القطاع المنهك. وبعد أيام من الهدوء، عاد القصف لساعات محدودة أربك الأسواق، قبل أن تستقر مجددًا.

في دير البلح وسط القطاع، كانت سامية خليل (38 عامًا)، أرملة وأم لثلاثة أطفال، تتابع الأخبار حين سمعت أصوات القصف القريبة من منزلها. هرعت إلى السوق فوجدته مكتظًا بالمشترين. فكرت بالعودة، لكنّها تراجعت خشيّة انقطاع البضائع. 

تقول بصوتٍ مُنهك: "سئمنا من حياة عدم الاستقرار، فكرة أن نحرم مرة أخرى من الطعام تزعجني. لدي تخوف كبير من انقطاع السكر تحديدًا، فقررت تخزينه. اشتريت 10 كيلو بسبعة شواكل للكيلو، بعد أن كان بخمسة فقط قبل ساعة، إضافة لسلعٍ أخرى زاد سعرها شيكل أو اثنين".

حين عادَت إلى البيت هدأت الأوضاع، وأكدّت الأخبار استمرار الهدنة ومن ثم عودة تدريجية لأسعار الطبيعية؛ لكنّها جلست مرهقة، تتساءل: "إلى متى سنبقى تحت رحمة التجار؟ مع كل خبر عن توتر أو قصف تختفي البضائع وترتفع الأسعار".

وراء هذه القصص، تتراكم أرقام مُفزِعة: مُعدّل الفقر في غزة وصل إلى 100%، والبطالة تجاوزت 80%، فيما قفز التضخم إلى أكثر من 250%، ما يرسم صورة للواقع حيث تتحوّل حياة الناس إلى سباق بقاء يومي في سوق مفتوح على المجهول.

في زاوية أخرى من السوق، كانت سحر محمد (28 عامًا) تنتظر في طابور الدفع الإلكتروني، حين أعلن المحاسب تعطلّ شبكة الإنترنت. توقفت الحركة، واضطرّ الزبائن إلى الدفع نقدًا، بينما هي لم تكن تملك أي سيولة مالية وتعتمد كليًا على الدفع البنكي.

تُضيف: "تركت المشتريات عند المحاسب، وذهبت إلى مكان فيه إنترنت لإرسال المبلغ كاملًا. لاحقًا اكتشفت أنّني دفعت 80 شيكل أكثر من شقيقتي التي اشترت نفس المنتجات قبل ساعتين. الحمد لله أن توقف الهدنة لم يدم طويلًا، وإلا كانت الأسعار حلّقت أكثر. لا أحد يوقف التجار عند حدّهم".

بحسب قانون حماية المستهلك رقم 21 لعام 2005، تُناط مهمة الرقابة على الأسعار في وزارة الاقتصاد الوطني، التي يُفترض أن تضبط السوق وتمنع الاحتكار والاستغلال.

تواصلت مراسلة آخر قصة مع مدير حماية المستهلك في الوزارة، محمد بربخ، الذي أكّد أنّ الوزارة اتخذت عدة إجراءات لمواجهة السلوك الاحتكاري. يقول: "تحركت فرق حماية المستهلك برفقة مباحث التنفيذ إلى مخازن التجار ومحال الجملة، وأوقفت بعضهم بموجب صلاحية الضبطية القانونية، وعملت على توقيعهم على تعهدات خطية بالالتزام بالقوائم السعرية المعلنة من الوزارة".

ويُضيف أنّ توقيع التجار على هذه التعهدات يُمثل التزامًا قانونيًا يُعيد فرض القانون على الحياة الاقتصادية ويمنح الأسواق شيئًا من الاستقرار، مشيرًا إلى خطة ميدانية لتعزيز الوجود الرقابي عبر دعم الفرق الميدانية بالكوادر وضبط المنافذ التجارية.

غير أنّ الواقع في الأسواق لا يعكس هذا الانضباط المأمول، فحتى تلك التعهدات التي وُقّعت لا يُلتزم بها فعليًا. يقول متسوقون إن الأسعار تتأرجح مع كل خبر سياسي أو تطور أمني، وكأن السوق يتحرك على إيقاع الحرب لا على قرارات الوزارة. مع كل توتر أو خبر عن تصعيد، ترتفع الأسعار تلقائيًا، بينما تتراجع عند الهدوء، ما يجعل قبضة الوزارة محدودة التأثير في ظل هذا التقلب الدائم.

آخرون ذهبوا إلى أبعد من ذلك، معتبرين أنّ جذور الأزمة اقتصادية في جوهرها أكثر منها إدارية، فالسوق في غزة، كما يوضح المختص الاقتصادي، أحمد أبو قمر، لم يعد يخضع لقوانين العرض والطلب الطبيعية، بل لآليات مشوّهة بفعل الحرب الممتدة منذ عامين، وتدّاعياتها المستمرّة حتى بعد إعلان وقف إطلاق النار.

فمع تكرار الإغلاقات وتدمير شبكات التوريد، اختفى العرض الحقيقي للسلع، كما يشير أبو قمر، وتحوّل كثير من التجار إلى مخزّنين انتهازيين يتحكمون بتوقيت طرح البضائع في السوق. ومع ندرة المواد وارتفاع كلفة النقل والتخزين، تضاعفت الأسعار بشكل عشوائي، فيما فقد المستهلك القدرة على المقارنة أو المقاطعة.

في الوقت نفسه، يؤكد أبو قمر أنّ الحرب أفرزت طبقة تجارية جديدة تُعرف محليًا بـ“أصحاب البسطات”، وهم باعة موسميون يشترون كميات محدودة من السلع ويبيعونها بهوامش ربح مرتفعة، خارج أي رقابة أو تسعيرة رسمية. هذا التحوّل، وإن وفّر فرصًا محدودة للدخل في ظلّ البطالة؛ إلا أنه عمّق فوضى السوق وجعل الأسعار تتغير من شارع إلى آخر.

وإلى جانب ذلك، يقول أبو قمر: "تراجعت القوة الشرائية لمعظم الأسر بفعل انعدام الدخل وتآكل الأجور، فحتى من يتقاضى راتبًا لم يعد قادرًا على الشراء كما في السابق". وهكذا وجد الغزيون أنفسهم أمام اقتصاد يومي هشّ، تتحكم به الندرة والخوف والتكهنات أكثر مما تحكمه القوانين الاقتصادية أو الرقابية.

ورغم وقف إطلاق النار في قطاع غزة، لا يزال الغزيون يواجهون فوضى الأسعار وندرة السلع الأساسية، في ظلّ غياب واضح للرقابة وارتباك حكومي في فرض القانون.

ومع كل جولة تصعيد جديدة، تتكرر القصة نفسها: القصف يعلو، الأسعار ترتفع، والمواطن المُنهك يدور في ذات الحلقة، يسأل في صمتٍ يختزل حال قطاع بأكمله: "من يحمينا من التجار؟".