اضطرابات هرمونية تفقد نساء غزة توازنهن

اضطرابات هرمونية تفقد نساء غزة توازنهن

تبدو داليا أبو لحية، (22 عامًا)، بوجهٍ شاحب وملامح أنهكها السهر والقلق. تمسك خيوط الصوف بين أصابعها بحذر، كأنّها تحاول أن تستعيد من الحياكة شيئًا من طمأنينتها القديمة. منذ نزوحها من جباليا شمال قطاع غزة، تشعر أن جسدها لم يعد كما كان؛ فالحرب التي امتدّت لعامين متواصلين، بما رافقها من خوفٍ دائم وإجهادٍ متواصل، تركت أثرًا واضحًا في صحتها، حتى باتت تلاحظ اضطرابًا في توازنها الجسدي لم تعرفه من قبل.

تواصل الحياكة بصمت، ويبدو عليها شيء من الهدوء وهي تقول إنها شعرت بشيء من الراحة حين عرفت أن كثيرات يمررن بالتجربة ذاتها، وأنّ الأمر لا يخصها وحدها. ثم ترفع رأسها بابتسامةٍ قصيرة تخفي تعبًا متراكمًا، وتقول: "الحرب أنهكتنا، وحتى أبسط احتياجاتنا النسائية لم تكن متوفّرة دائمًا. كنا نحاول التأقلم، لكن التعب أصبح يسكن في كل تفاصيلنا، حتى في إيقاع أجسادنا".

في قطاعٍ يبلغ عدد سكانه نحو 2.1 مليون نسمة، تمثّل النساء قرابة 49% من إجمالي السكان، أي ما يقارب المليون امرأة. ويُقدّر أن نحو 567 ألفًا منهن في سنّ الإنجاب؛ ما يعني أن تدّاعيات الحرب لا تُصيب فئة محددة، بل تمسّ صحة نصف المجتمع، وتظهر بشكلٍ خاص في اضطرابات هرمونية متزايدة تؤثر على الخصوبة والطمث والوظائف الجسدية للنساء.

تبدو رغدة ستوم، سيدة أربعينية بملامحٍ أنهكها الزمن وعينين تَحملان ثِقل التعب، أكبر من عمرها الحقيقي؛ كأنّ سنوات المرض والحرب تركت خطوطها العميقة على وجهها. عانت طويلًا من اضطرابٍ في الغدة الدرقية، لكنّ الحرب جعلت حالتها تتفاقم، فباتت تشعر أنّ جسدها يخذلها يومًا بعد آخر.

يخبرها الأطباء أنّ الغدة كبرت أكثر، وأن حدوث الحمل أصبح صعبًا، وربّما مستحيلًا. تُعقب بصوتٍ متهدج: "أتمنى أن أُرزق بطفل، لعلّه يخفّف عنّي هذا الألم."

تعيش السيدة بين قلقين؛ خوفٍ على صحتها وخشيةٍ على زواجها الذي تصفه بأنّه "متماسك رغم الألم"، فيما يحاول زوجها أن يمنحها الأمل مؤمنًا بأنّ الصبر وحده هو العلاج الممكن في ظلّ غياب الدواء والرّعاية الصحية.

أما فاطمة كسّاب، (21 عامًا)، فقد نزحت من مدينة غزة إلى بلدة الزوايدة وسط القطاع. تستذكّر أشهر الصيف الماضية حين كانت المجاعة تضرب القطاع فتقول: "من مايو حتى سبتمبر لم أتناول طعامًا كافيًا، كنا نعيش على الحدّ الأدنى، أرهقني الجوع وتعبت نفسيًا حتى أصبحت عصبية ومنعزلة عن الجميع".

خلال تلك الفترة، عانت من اختلال هرموني أدّى إلى انقطاع دورتها الشهرية تمامًا؛ ما أثار في نفسها خوفًا مضاعفًا قبل أن تكتشف أن شقيقتها تمرّ بالمشكلة ذاتها. تقول بابتسامةٍ خجولة تخفي وجعًا طويلًا: "حين عادت الأمور إلى طبيعتها قليلًا، شعرت براحة كبيرة، كأنّ جسدي بدأ يتنفّس من جديد بعد الإنهاك".

على نحوٍ غير بعيد، في مدرسة تحوّلت إلى مأوى مكتظ في دير البلح وسط القطاع، تجلس ميساء النجار، (42 عامًا)، داخل صفٍّ دراسي فقد هدوءَه القديم. فقدَت منزلها في جباليا شمال القطاع، واعتُقل زوجها منذ بداية النزاع، بينما اختفى ابنها إيهاب أثناء ذهابه إلى مركز للمساعدات ولم يعد.

تقول النجار بصوتٍ متقطّع: "بعد اعتقال زوجي مباشرة، بدأت ألاحظ تغيّرات في جسدي، ولم أعد أشعر بنفسي، وانقطعت دورتي الشهرية لثلاثة أشهر متتالية. كنت أشعر خلالها أن جسدي مثقلٌ بتوترٍ دائم، كأنه على وشك الانفجار في أي لحظة."

ظنّت في البداية أنها حامل، لكن الفحوصات أكّدت العكس. وحين استشارت طبيبة نساء وولادة في أحدّ المشافي الميدانية، جاءها الجواب: "هذا طبيعي بسبب النزوح والضغوط النفسية والخوف المستمر. لا تقلقي، ستعود الأمور تدريجيًا عندما تهدأ حياتنا". لكن الهدوء لم يأتِ بعد. تقول بأسى: "توقّفت الدورة، لكن الألم لم يتوقف. كأنّ كل شيء داخلي قد انكسر."

أما حنين الغرابلي، النازحة من حيّ الشجاعية شرق مدينة غزة، فتحمِل في جسدها آثار الحرب كما تحمِل في قلبها الحنين إلى حياة طبيعية. أصيبت بطلقٍ ناري في ساقها في مارس 2025، ومنذ ذلك الوقت تعاني آلامًا شديدة في العظام وتعبًا دائمًا، رغم تعافيها من الجرح. 

تقول الغرابلي إنها قصدت المستشفى البلجيكي في الزوايدة وسط القطاع للعلاج، لكن الطبيب أخبرها أن سبب الآلام في نفسي أكثر منه جسدي، موضحًا أن الصدمة النفسية والحرب سببتا اضطرابات هرمونية أثّرت على صحة عظامها. وعندما طلبت منه أقراص مسكنات، أجابها بحزن: "لن تكون ذات فائدة في ظلّ هذا التأثير النفسي العميق."

تعكس شهادات النساء في غزة ملامح أزمة تتجاوز حدود الحرب ذاتها. فامتدادها لعامين متواصلين (من أكتوبر 2023 حتى أكتوبر 2025)، وتكرار النزوح مرات عدة، ثم غياب الاستقرار حتى بعد وقف إطلاق النار بسبب الخسائر الهائلة، جميعها عوامل أعادت تشكيل تفاصيل الحياة اليومية وأرهقت الجسد والنفس معًا.

في عيادة صغيرة داخل مركز "زينة الحياة للإخصاب" بمدينة غزة، يروي مدير المركز الطبيب ماهر عجور، أنّ وجوه النساء اللاتي يدخلن بخطوات متعبة وقلوب مثقلة بالأسئلة أصبحت مألوفة، ومعظمهن شابات في مقتبل العمر يعانين اضطرابات لم تكن بهذا الحجم من قبل.

يقول عجور إن الحرب تسببت في ارتفاع ملحوظ في الاضطرابات الهرمونية لدى النساء، أبرزها اضطراب الدورة الشهرية الناتج عن تأثر الغدة النخامية، وهي من أكثر الغدد حساسية للعوامل النفسية، مضيفًا أن كثيرات، حتى الفتيات غير المتزوجات، عانين من ارتفاع في هرمون الحليب بسبب الخوف والأرق والضغوط النفسية.

وتُعدّ الغدة النخامية، وهي الغدة الرئيسة المسؤولة عن تنظيم إفراز الهرمونات في الجسم، الأكثر تأثرًا بالحالة النفسية وسوء التغذية، إذ يؤدي اضطرابها إلى خلل في عمل الغدد الأخرى مثل الكظرية والمبيضين، ما ينعكس على الدورة الشهرية والخصوبة والنوم والمزاج.

ويشير عجور وهو استشاري أمراض النساء والعقم، إلى أن غياب العلاج ونقص الأدوية في قطاع غزة فاقما الوضع، فالمخاوف اليومية وسوء التغذية أخلّا بتوازن الجسم الطبيعي، وظهرت حالات انقطاع للدورة الشهرية في سن مبكرة.

ورغم غياب الإحصاءات الدقيقة، تؤكد المؤشرات الطبية زيادة حالات عدم انتظام الطمث ومشكلات الخصوبة، إلى جانب فقر الدم وتساقط الشعر واضطرابات النوم وضعف المناعة الناجمة عن بيئة النزوح غير الصحية.

ووفق دراسات لمنظمات نسائية عاملة في غزة، تتحمل النساء أعباء جسدية تفوق طاقتهن أثناء النزوح، كالطهو في ظروف بدائية، وجلب المياه لمسافات بعيدة، وتنظيف أماكن الإيواء المكتظة؛ ما يخلّف آثارًا إضافية على صحتهن الإنجابية والجسدية والنفسية.

في هذه البيئة القاسية، يصبح الجسد الأنثوي مرآة لمعاناة مزدوجة: الخوف والجوع من جهة، والإهمال الطبي وغياب الرعاية من جهة أخرى، فيما تتراكم الأعراض بصمت خلف خيام لا تقي من البرد ولا تردّ المرض.

ويضيف عجور أن الوصول إلى توازن هرموني وصحي يتطلب أولًا تحقيق التوازن النفسي والغذائي، وهو أمر شبه مستحيل في ظل انقطاع العلاج والمختبرات، متوقعًا استمرار المشكلات الإنجابية لفترة طويلة لدى من عشن ظروف الحرب القاسية.

وتوضح الأخصائية النفسية فداء مهنا أن العلاقة بين الضغوط النفسية والحرب والتوازن الهرموني لدى النساء وثيقة جدًا، فالتوتر المستمر وسوء التغذية وقلة النوم تضع الغدد المسؤولة عن تنظيم الهرمونات تحت ضغط دائم.

وتشير إلى أن الجسم حين يواجه صدمة شديدة، كفقدان أحد أفراد العائلة أو النزوح، أو خسارة المنزل، يدخل في "حالة بقاء"، فيتوقف عن وظائفه الطبيعية كالإباضة أو الحيض. وتشير إلى أن النساء لا يفقدن انتظام دورتهن الشهرية فحسب، بل يعانين أيضًا تعبًا مزمنًا وتغيّرًا في الوزن وتقلبات في المزاج دون أن يدركن أن السبب هرموني بحت.

وتؤكد مهنا ضرورة الجمع بين العلاج النفسي والطبي، إذ لا يتحقق الشفاء إلا حين يجد الجسد والنفس معًا مساحة أمان وغذاء وطمأنينة.

في غزة اليوم، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، لا تبحث النساء فقط عن مأوى يقيهن قسوة الأيام، بل عن فرصة لاستعادة ما اختلّ في أجسادهن ونفوسهن، محاولاتٍ إيجاد بعض الشفاء في الهدوء الهش، وفي انتظار عودة الحياة، بكل معانيها، إلى توازنها المفقود.