تستلقي هداية عمار (33 عامًا) على الأرض، تتقوس من شدة ألم المغص الكلوي الذي يهاجمها في نوبات متكررة منذ أسابيع. يتصبب عرقها، وأنفاسها متقطعة، تحاول كتم أنينها، لكن الألم الحاد الذي يسببه مرور الحصى في الكلى لا يرحم.
تهمس بصوتٍ واهن: "أشعر كأنّ سكاكين تضربني." تناولت ثلاث حبات من مسكن عثرت عليه بعد بحث طويل، لكن الألم لا يهدأ، ويديها ترتعشان من شدة التقلصات.
تقطن هداية فيما تبقى من بيتهم المدمَّر في منطقة الدرج وسط مدينة غزة. الجدران المتشققة تروي أثر قصفٍ قديم، ورائحة الرطوبة تختلط بأنينها المتقطع. تقول بصوت خافت: "لم أجرب ألمًا كهذا من قبل. زرت أكثر من طبيب، وآخرهم وجّهني لإجراء عملية تفتيت الحصى، لكن لا يوجد أجهزة في غزة لإجراء عملية كهذه".
تنتظر منذ أيام وصول شاحنات المعدات الطبية إلى القطاع بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي أُعلن في 9 أكتوبر الجاري، على أمل أن تتمكن أخيرًا من الخضوع للعملية التي أبقتها في حالة يُرثى لها.
حصوات الكلى تنهش أجساد المرضى الغزيين، خصوصًا أولئك بعدما اجتُرِعَت أجسادهم بتداعيات الحرب وظروف المجاعة وسوء التغذية التي أضعفت مناعتهم وأرهقتها.
ورغم انعدام إحصاءات دقيقة حالية عن عدد الإصابات الجديدة بحصوات الكلى منذ بدء الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، إلا أنه من المرجح أن هناك آلاف الحالات في غزة يعانون من هذا المرض المؤلم إذ تُشير بعض المصادر إلى أن الحصوات كانت تُشكّل ما يقارب 21.2% من حالات الفشل الكلوي المزمن في فلسطين قبل اندلاع النزاع الأخير.
مثلها، يعيش محمد سليم (44 عامًا) تجربة مشابهة مع الألم المتواصل. ينكمش إثر آلام حادّة في بطنه تهاجمه عادة بعد منتصف الليل. نوبات متكررة أرهقته حتى تدهورت حالته النفسية.
يقول بصوت واهن: "خلال الحرب أصبت بعدة حصوات في الكلى. فقدت عدة كيلوغرامات من وزني، وأعاني من دم في البول وألم شديد في الظهر. أحاول شرب الماء لتفتيت الحصوات الكبيرة، لكن لا تحسّن، فضلاً عن معاناتي من القولون العصبي".
كان من المفترض أن يخضع سليم لعملية تفتيت عاجلة، لكن نقص أجهزة المناظير والتفتيت بالموجات جعل العملية مستحيلة. يتساءل سليم بمرارة: "انتهت الحرب، فهل ستدخل الأدوية والأجهزة الطبية لغزة؟ ومتى؟".
أما مريهان محمد (37 عامًا)، فتواجه نوعًا مختلفًا من الألم؛ ألمًا يتسلل من شحّ الماء قبل أن يتشكَّل في الكلى. قبل خمسة أشهر، اكتشفت إصابتها بالحصوات، ومنذ ذلك الحين تأتيها نوبات مغص متفرقة لكنها حادة. تشرب لتر ماء واحد فقط يوميًا، بالكاد يكفيها، لكنها تؤثر أطفالها الخمسة على نفسها. تقول: "أعرف أن الماء هو العلاج الأول، لكن من أين لي بالماء العذب؟ أتركه لأطفالي، فهم أولى."
تتوجع مريهان في بيتها الصغير وسط المحافظة الوسطى، حيث تقضي معظم وقتها متوجسة من نوبة ألم جديدة. تتحمل الأوجاع بصمت ولا تذهب إلى المستشفى لتلقي أي مسكنات، خوفًا من نقص المعقمات وسوء الأوضاع الصحية داخل الأقسام المزدحمة بالمرضى. تردف بصوت يملؤه القلق: "أخاف أن تتدهور حالتي وأصل إلى الفشل الكلوي من الحصوات التي تنتشر في الكليتين."
بينما يتجسد ألمها في كل حركة، يتسلل شعور آخر أشدّ وطأة: شعور بالعجز أمام جسد يطلب علاجًا لا تستطيع الوصول إليه، وماء لا تستطيع شربه. تقول وهي تتنهد: "أنتظر فقط أن يتحسن الوضع الصحي لأعرف تشخيصي بدقة، وأقوم بالعملية قبل أن تسوء حالتي أكثر".
استشاري جراحة الكلى، الطبيب عاطف الكحلوت، يوضح أنَّ حصوات الكلى هي كتل صلبة تتشكَّل في إحدى الكليتين أو كلتيهما، مكونة من أملاح ومعادن، وقد تكون بحجم حبيبات الرمل أو البازلاء، وعادة ما تكون صفراء أو بنية اللون. تسبب آلامًا حادة في الظهر أو الجانبين أو أسفل البطن، مع دم في البول وحاجة مستمرة للتبول مصحوبة بالألم.
ويقول الطبيب الكحلوت إن ألم المغص الكلوي يأتي على شكل نوبات فجائية ويُعد ثاني أشد ألم بعد المخاض، وقد يؤدي احتباس البول بسبب الحصوات إلى فشل كلوي حادّ، وهو ألم لا يميز بين الأعمار.
ويؤكد أنّ انهيار المنظومة الصحية في غزة جعل المرضى أكثر عرضة للخطر، إذ توقف التدخل الجراحي بالمناظير بسبب غياب المعدات والأدوات الجراحية والدعامات التي يحتاجها بعض المرضى، فتأجلت العمليات لحين السماح بدخول الأجهزة الطبية. ووفق تقديرات طبية غير رسمية، ينتظر عشرات المرضى في غزة عمليات تفتيت مؤجلة منذ أشهر.
تشير بيانات وزارة الصحة في غزة إلى أنه قبل اندلاع النزاع، كان هناك 1100 مريض فشل كلوي، لكن العدد انخفض إلى نحو 628 بعد وفاة 472 مريضًا، أي ما نسبته 41% من المرضى، نتيجة نقص أجهزة الغسيل الكلوي والأدوية.
ويقول زاهر الوحيدي، مدير وحدة المعلومات الصحية الفلسطينية، إنّ المنظومة الصحية في غزة تعاني من عجز غير مسبوق، إذ بلغت نسبة العجز في الأدوية أكثر من 55%، فيما وصلت نسبة النقص في المستهلكات الطبية إلى 66%، بما في ذلك المستلزمات الحيوية الخاصة بمرضى الكلى مثل القساطر والمناظير والدعامات والمواد المستخدمة في جلسات الغسيل الكلوي والتفتيت.
ويشير الوحيدي إلى أنّ هذا العجز تفاقم منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023 مع تعطّل خطوط الإمداد الطبية ومنع دخول الشحنات الأساسية، ما أضعف قدرة النظام الصحي على تقديم الرعاية الأساسية وأجبر المستشفيات على الاعتماد على مخزون طوارئ محدود لا يكفي إلا لأيام معدودة.
ترى العديد من المنظمات الحقوقية والطبية الدولية، أن منع دخول الأجهزة والمستلزمات الطبية إلى غزة يشكّل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني، الذي يكفل الحق في الحياة والصحة للمدنيين. وتشير إلى أنّه بموجب البند 23 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، يتعيّن السماح بحرية مرور الشحنات الطبية المخصصة للمدنيين، ما يجعل حظر مثل هذا الدخول - إذا فُرض تعسفيًا أو دون مبرر أمني موضوعي - يُعد في بعض الحالات جريمة حرب".
في غزة، لا يواجه مرضى حصى الكلى ألم المرض وحده؛ فالألم يشتدّ في انتظار العلاج الذي تأخر طويلًا. لكن بعد وقف الحرب وبدء دخول بعض الشحنات الطبية خلال الأيام الأخيرة، بدأت بوادر أمل حذرة تلوح لمرضى أنهكهم الانتظار. لا يطلبون سوى استكمال وصول الأجهزة والأدوية اللازمة، ليتمكنوا من استعادة حقهم الطبيعي في العلاج، بعدما ظلّ الألم رفيقهم الوحيد لعامين طويلين.


