حين وقفت أمل ياسين، (33 عامًا)، أمام ركام منزلها في حي الشيخ رضوان شمالي قطاع غزة، لم تجد سوى جدارٍ وحيد يرفض السقوط. حدّقت طويلًا في الخراب، كأنّها تُحاول استيعاب ما تبقّى من حياتها القديمة، ثم أدارت ظهرها وقررت العودة أدراجها إلى خيمة نزوحها جنوب القطاع، تتعثّر بالحجارة وكأنّ الأرض تشاركها الحزن.
نزحت ياسين قبل ثلاثة أشهر، وكان بيتها لا يزال قائمًا، لكنّها حين عادت وجدته أثرًا بعد عين. فالغرفة الجانبية الوحيدة التي صمدت أمام القصف باتت شاهدة على حجم الدمار الذي حوّل الحي إلى أطلال. تقول بينما تحاول القفز فوق الركام: "وكأنّه زلزال ضرب المنطقة، كنت أودّ العودة فورًا، لكن عائلتي رفضت فالركام يُعيق الحركة، ولا توجد مقومات للحياة."
سارت السيدة بين شوارع الشيخ رضوان وجباليا شمال القطاع، والركام أمامها على مدّ البصر. وبعد إنهاكٍ من المشي جلست على بقايا منزلٍ مهدّم تلتقط أنفاسها، تتأمل المكان وتتمتم: "كيف سنعود؟ ما الذي حدث!" أمامها يمتد سوق الشيخ رضوان، الذي كان يعجّ بالحركة والعمران، وقد تحوّل إلى مشهدٍ يسودّه الخراب.
بعد وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر الحالي وانسحاب الجيش الإسرائيلي من الأحياء التي قام بتدميرها على نطاقٍ واسع، عاد الغزيون يتفقدون بيوتهم، فلم يجد معظمهم سوى مناطق مسحت بالكامل أو تضررت أضرار بليغة.
وحتى اليوم، ما زالت أزمة الركام تُشلّ الحياة في مناطق واسعة من غزة، إذ يُغلق الركام شوارع رئيسية كانت شرايين المدينة، ويحول بين وصول الناس الوصول إلى ما تبقى من منازلهم، فلا أحد يستطيع تخطيه أو العيش وسطه. لا إمكانات حقيقية لرفع الأنقاض، ولا معدات ثقيلة دخلت إلى القطاع للمساعدة، فيما تعمل بلدية غزة بإمكانات محدودة وآليات متهالكة لا تواكب حجم الدمار.
تُقدّر كمية الركام في قطاع غزة بنحو 55 مليون طن، أيّ ما يكفي لتغطية مساحة مدينة غزة بطبقة من الركام تمتد نحو متر كامل فوق الأرض، بينما تُقدّر تكلفة الإعمار بما يقارب 70 مليار دولار، وفق أحدث بيانات الأمم المتحدة (أكتوبر 2025).
تسبب النزاع الذي استمرّ لعامين متواصلين، إلى تدمير مدن سكنية كاملة في القطاع، فمدينة رفح أُبيدت كليًا، ومحافظة شمال القطاع وبلداتها باتت أطلالًا، وشرق خانيونس تضررت بنسبة 90%، أما مدينة غزة فبلغت نسبة تدميرها نحو 83%، بحسب تحليل صور الأقمار الصناعية الصادر عن وكالة الأمم المتحدة (UNOSAT).
فايزة عاطف (55 عامًا)، من سكان بئر النعجة شمال قطاع غزة، عادت بعد وقف إطلاق النار إلى بقايا بيتها سيرًا على الأقدام من الزوايدة في وسط القطاع. كان المنزل يضم غرفة ومطبخًا وحمامًا، فيما التهم القصف بقية أجزائه منذ الأيام الأولى للحرب.
تقول وهي تقلب صور الدمار: "الوضع كارثي. الركام يعيق الحركة كثيرًا. كدّتُ أفقد توازني أكثر من مرة. في المرة الثانية التي ذهبت بها، خفّ الركام قليلًا بعد أن فتحت البلدية بعض الشوارع، لكنّه ما زال في كل مكان، لذلك لن أعود حتى تتوفر مقومات الحياة".
على بُعد أحياء قليلة، يفكر أحمد عبد العزيز (50 عامًا) الذي نزح من بيته في حي الصفطاوي شمال القطاع في نقل خيمته من جنوب القطاع إلى جوار ركام بيته المدمر، لكنّه يتراجع عن هذه الفكرة مع كل زيارة. يقول: "لم أعد بعد إلى ركام بيتي، فلا ماء ولا طرق سهلة للتنقل. أنتظر أن تُزال الأنقاض وتعود المياه كما كانت، عندها فقط سأرجع إلى شمال القطاع".
مثل عبد العزيز، ينتظر كثير من السكان في شمال غزة أن تُفتح الطرق ويعود تدفق المياه إلى أحيائهم قبل أن يتمكنوا من العودة. فالشوارع المغلقة بالركام، وغياب شبكات المياه التي كانت تُغذي المنازل، جعلا الحياة هناك شبه مستحيلة، لتتحوّل العودة إلى انتظارٍ مفتوح على المجهول، فيما تكشف بيانات البلديات حجم الانهيار الذي أصاب هذه المرافق الحيوية.
تُظهر بيانات بلدية غزة أنّ أكثر من 75% من الآبار المركزية وعددًا كبيرًا من الآبار المحلية خرجت عن الخدمة. تصلّ المياه اليوم إلى40% فقط من مساحة المدينة بسبب الضرر الكبير الذي لحق بالبنية التحتية وشبكات المياه. وفي الوقت نفسه، تتكدّس في مدينة غزة وحدها 170 ألف طن من النفايات، وأضعاف هذا الرقم في بقية القطاع، في مشهدٍ يُهدد بكارثة بيئية وصحية.
يقول عاصم النبيه، المتحدث باسم بلدية غزة، إن ما حدث بعد الإخلاء الأخير لمدينة غزة في سبتمبر المنصرم يُمثّل "نوعًا جديدًا من التدمير" لم يُستخدم طيلة شهور النزاع السابقة خلال عامي الحرب، إذ استخدمت إسرائيل مدرّعات مفخخة لمسح الأحياء بالكامل، وبلغت نسبة الضرر نحو 85%.
ورغم هذا الحجم غير المسبوق من الدمار، لم تتمكن البلدية حتى الآن من وضع خطة واضحة ومعلنة لرفع الركام أو إعادة تأهيل البنية التحتية الحيوية في المدينة. يقول النبيه إن طواقم البلدية "تحاول الصمود بحدّها الأدنى من القدرة التشغيلية"، مضيفًا أنهم يواجهون تحديًا هائلًا في الحفاظ على الخدمات الأساسية، وقد أُعدت قائمة مفصّلة بالاحتياجات العاجلة أُرسلت للمؤسسات الدولية، تشمل آليات ثقيلة ووقودًا وخطوط مياه وأنابيب ومواد صيانة.
مع ذلك، يُثير غياب جدول زمني محدد ووضوح في آليات التنفيذ تساؤلات بين السكان حول فاعلية أداء البلدية في ظل الظروف الحالية. فبحسب النبيه، بدأت الطواقم حديثًا بفتح الشوارع الرئيسية للمدينة لتسهيل الوصول إلى بعض الأحياء، في خطوة أولى على طريق طويل من التعافي.
وتأتي هذه الجهود ضمن خطة من ثلاث مراحل: استجابة طارئة، ثم تعافٍ مبكر، وصولًا إلى إعادة الإعمار، غير أن تنفيذها يبقى مرهونًا بتوفير الموارد الأساسية بشكل عاجل عبر المعابر التي يتحكم الاحتلال في فتحها وغلقها.
لكن المعوقات لا تتوقف عند الجانب الفني، فمن جانب اقتصادي ولوجستي، يُلقي الحصار وقيود دخول المعدات الثقيلة بظلاله الثقيلة على محاولات إعادة الإعمار. عدم وصول عدد كافٍ من الجرافات والآليات والأجزاء اللازمة يعوق فتح الطرق وإزالة الحطام، ما يجعل عودة الحياة الطبيعية شبه مستحيلة حتى في المناطق التي شهدت استقرارًا نسبيًا.
وفي ظلّ هذا الجمود، يبقى سوق الإنشاءات شبه متوقّف، وتستمر أعداد كبيرة من العائدين المحتملين في العيش داخل الخيام أو على أطراف المخيمات، بانتظار لحظة تسمح فيها الظروف بعودة ممكنة إلى ما تبقى من مدنهم.
من جانبه، يرى د. رامي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أنّ الاستجابة الحضرية الطارئة في غزة لا تُقاس بالتصريحات العامة بقدر ما تُقاس بوجود خطة ميدانية واضحة وشفافة لإزالة الركام وفتح الطرق وإعادة الخدمات الأساسية.
ويشير إلى أنّ استمرار القيود المفروضة على دخول المعدات الثقيلة، مع غياب آلية تنسيق فعّالة بين البلديات والجهات المحلية، يُحوّل جهود التعافي إلى حالة من الإدارة المؤقتة بدل أن تكون بداية فعلية لإعادة الإعمار.
ويستند عبده إلى تقديرات ميدانية تُظهر بقاء عدد كبير من المفقودين تحت الأنقاض منذ الشهور الأولى للنزاع، ما يستلزم أولوية واضحة لعمليات الانتشال ورفع الركام قبل أي خطوات أخرى.
أما من الناحية القانونية، فيوضح محامي القانون الدولي يحيى محارب، أنّ تدمير إسرائيل لمربعات سكنية كاملة يُعد خرقًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني، وفق المادة (25) من لائحة لاهاي التي تكفل حماية المدنيين وممتلكاتهم أثناء النزاعات المسلحة.
ويضيف محارب أنّ نسف الأحياء السكنية باستخدام المدرّعات المتفجرة وحرمان المدنيين من المأوى والمياه والغذاء يمثل انتهاكًا للمادة الثامنة من ميثاق روما، التي تُصنف هذه الأفعال كـ "جرائم حرب"، إلى جانب مخالفتها للمادة (53) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر تدمير الممتلكات الخاصة إلا في حال الضرورة العسكرية القصوى.
كما أنّ منع دخول المعدات والمساعدات الإنسانية اللازمة لإزالة الركام وإعادة الإعمار، وفقًا لما أشار إليه المحامي محارب، قد يُدرج ضمن ما يُعرف بـ "العقاب الجماعي"، وهو محظور بموجب القانون الدولي الإنساني.
ويؤكد أنّ هذه الانتهاكات تستوجب تحقيقًا دوليًا مستقلًا في حجم الدمار ونطاق الانتهاكات الموثقة، خاصة مع توافر الأدلة البصرية والصورية التي سجلتها وكالات الأمم المتحدة. ومع غياب المساءلة الفعلية حتى الآن، يظلّ الركام في شوارع غزة ليس فقط شاهدًا على الحرب، بل أيضًا على صمتٍ دولي طال أمده.
وسط كل هذه الأرقام والنداءات الدولية، يبقى المشهد على الأرض أكثر قسوة مما تصفه التقارير. مدن بأكملها تختنق تحت الركام، وسكانها ينتظرون أن تُفتح الطرق وتعود المياه قبل أن يفكروا في الإعمار.
بعد عامين من الحرب، تبدو العودة إلى الحياة مهمة شاقة لجسدٍ أنهكه النزوح والجوع والانتظار. ففي غزة، الركام ليس مجرد حجارة مهدّمة، بل ذاكرة ثقيلة وتاريخ عائلي دُفن تحت الأنقاض. ومع كل خطوة تتعثر بالحطام، تبقى الأسئلة معلقة: متى تُزال هذه الآثار؟ ومتى تُمنح هذه الأرض فرصةً للتنفس من جديد؟ حتى الجدران التي بقيت واقفة أمام بيوت البعض، تبدو كأنها ترفض أن تُنسى.


