ظنّت سحر سليمان (30 عامًا) أن شفاءها من سرطان الثدي سيكون نهاية رحلة الألم، لكن اندّلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، فتحت أمامها بابًا جديدًا من المعاناة لا دواءَ له.
تمسك سليمان بيدها صورة فحصها الأخير قبل الأحداث، الذي يؤكِّد تعافيها التام بعد ثلاث سنوات من العلاج، وتقول بصوتٍ يشبه الهمس: "كان لديَّ برنامج متابعة طبي كل ستة أشهر، وعلاج هرموني وقائي، وجلسات دعم نفسي أسبوعية، كنت أشعر أنني أستعيد زمام حياتي، لكن كل شيء توقَّف منذ عامين".
قبل النزاع بشهرين، كانت سليمان تخطِّط للعودة إلى عملها والانضمام إلى حملة "أكتوبر الوردي" للتوعية بالكشف المبكر. لكنها اليوم، تعيش في خيمة صغيرة جنوب القطاع؛ فقد انقطع علاجها الهرموني، وتدمَّر المركز الذي كانت تتلّقى فيه الدعم النفسي، وانقطعت صلّتها بالطبيب المشرف على حالتها.
تقول: "انقطع العلاج كليًّا، لا فحوصات، لا متابعات؛ أشعر وكأن الزمن توقف عند آخر جرعة تناولتها، كل شيء تلاشى، أصبح المرض ذكرى معلَّقة بيني وبين الحرب، لا أعرف إن كنت شُفيت فعلًا أم أن السرطان ينتظر لحظة ضعف جديدة ليعود".
في الوقت الذي تغرق فيه شاشات العالم بشعارات التوعية وأشرطة الأمل الوردية، تغيب غزة عن الصورة. لا حملات فحص، ولا أجهزة للكشف المبكر، ولا دواء. هنا، النساء اللواتي نجون من السرطان يواجهن حربًا جديدة لا ينتصر فيها أحد. فبينما تحتفل مدن العالم بشهر التوعية، تواجه مريضات القطاع واقعًا صامتًا من الانقطاع والعزلة والانتظار الطويل عند أبواب المستشفيات المهدَّمة.
يُظهر الخط الزمني كيف انهارت منظومة علاج السرطان في غزة منذ أكتوبر 2023، من الفحوص إلى الدواء إلى التحويلات، بينما بقيت الإصابات في ارتفاع.
ووفقًا لبيانات وزارة الصحة الفلسطينية، هناك أكثر من 13 ألف مريض بالسرطان في قطاع غزة، من بينهم 4,200 سيدة و750 طفلة، فيما تُسجَّل شهريًّا نحو 200 إصابة جديدة.
لكنّ هذه الأرقام لا تعكس سوى القشور الخارجية لأزمةٍ عميقةٍ تتجاوز المرض ذاته، فالأدوية مفقودة، والأجهزة متعطلة، والتحويلات الطبيّة إلى الخارج تكادّ تكون متوقفة. وبينما تتكدّس ملفات المرضى على رفوف المستشفيات، تزداد القصص التي تشبه قصة سحر، قصص نجاة مؤجَّلة تخنقها الحدود والمعابر المغلقة.
التجربة الأكثر مرارة، عاشتها أميرة رضوان (26 عامًا). وقد كانت اعتقدت أنّها تجاوزت المرحلة الأصعب بعد شفائها من سرطان الثدي عام 2023، لكنّها تقول إن الحرب أعادت الخوف إليها بشكلٍ أقسى. تردف وهي تحاول تذكّر آخر زيارة لطبيبها: "كنت أتناول الأدوية الوقائية وأجري الفحوص المنتظمة، لكن مع بداية الحرب توقَّف كل شيء".
في نهاية عام 2024، عادت إليها آلامٌ مألوفة في صدرها. حاولت الذهاب إلى المستشفى، لكن معظمها كان مدمَّرًا أو مكتظًا بالمصابين. تتابع: "انقطعت الأدوية الوقائية، وتوقفت جلسات المتابعة، حتى المسكنات العادية أصبحت صعبة. الأسوأ من الألم الجسدي هو الخوف الدائم من أن يعود المرض في ظروفٍ لا تسمح حتى بتشخيصه".
وتختم بصوتٍ يختلط باليأس: "أعرف أن المرض قد يعود، وأعرف أنني لو كنت أعيش في مكانٍ طبيعي لاكتشفناه مبكرًا. لكننا هنا محاصرون بالمرض من جميع الجهات".
وراء كلماتها يتجلّى واقع أكبر لا تقتصر قسوته على التجارب الفردية؛ فالإحصاءات بدورها تروي حكاية التراجع ذاته، بلغةٍ أشد وجعًا، إذ تُظهر بيانات وزارة الصحة الفلسطينية ومركز غزة للسرطان أن الحرب تسببت في انتكاسة واضحة لمسار تعافي مريضات السرطان في القطاع.
الطبيب محمد أبو ندى، المدير الطبي لمركز غزة للسرطان، إن أكثر من 70% من أدوية السرطان في غزة “رصيدها صفر”، موضحًا أن هذا النقص الحادّ "يعني توقف العلاجات الوقائية والهرمونية التي تُعدّ أساسية لمنع عودة المرض بعد الشفاء".
ويضيف أبو ندى أن هناك نحو 10 آلاف مريضٍ يحتاجون إلى علاج خارج قطاع غزة، "لكن لم يغادر فعليًّا سوى ألفي مريض فقط، رغم صدور موافقات لنحو 4500 حالة"، مشيرًا إلى أن "كثيرين يموتون وهم ينتظرون التصاريح".
هذه المعطيات، كما يوضح أبو ندى، لا تعكس أرقامًا فحسب، بل "قصصًا لمريضات كنّ قاب قوسين من التعافي، قبل أن تعيد الحرب الخوف إلى حياتهن وتقطع سبل علاجهن". وتؤكد شهادات الناجيات، مثل أميرة رضوان التي توقّف علاجها الوقائي منذ بداية الحرب، أن ما حدث لم يكن انقطاعًا مؤقتًا في الخدمات، بل انتكاسة جماعية في مسار الشفاء النفسي والجسدي للناجيات من السرطان في غزة.
وراء أزمة الدواء، تتكشف مأساة أعمق تتعلق بانهيار منظومة الكشف المبكر، التي كانت تمثل الخط الأول في مواجهة المرض. الطبيب عاهد سمور، مدير عام الرعاية الأولية بوزارة الصحة بغزة، يقول إن النظام الصحي "يعاني من شحٍّ حادٍّ في الإمكانيات".
ويوضح سمور أن أجهزة الكشف المبكر متوقفة في قطاع غزة، ولا توجد أدواتٌ للفحص الذاتي أو بياناتٌ محدَّثة منذ عامين، ما يشير إلى أنّ هذا الغياب الكامل للمتابعة يجعل احتمالات التشخيص المبكر ضئيلة، ويحوِّل إصاباتٍ بسيطة إلى حالاتٍ متقدِّمة يصعب علاجها.
أم أحمد الحرازين (45 عامًا) تعرف هذا الخوف جيدًا. تقول وهي تتفقد أوراقها الطبية القديمة: "كنت أتابع فحوصي كل ثلاثة أشهر منذ شفائي عام 2022، أحتفظ بكل تقريرٍ وتحليل، لكن الحرب قطعت هذا الخيط الرفيع من الأمان. توقفت الفحوص والعلاج الكيماوي، وأغلقت المستشفيات أبوابها، ولم يعد أمامي سوى الانتظار".
ثم تضيف بصوتٍ متعب: "منذ توقفت الفحوص وأنا أشعر أنّ المرض يعود، ليس لأن جسدي ضعيف، بل لأنّ كل شيءٍ حولي ينهار، الخوف، النزوح، العيش في خيمة، حتى الهواء هنا يذكّرني بالمرض".
خلف شهادات النساء، ترسم الأرقام صورة أكبر لمعاناةٍ ممتدة تتجاوز حدود الجسد، ففي دراسةٌ ميدانية أجرتها منظمة الصحة العالمية على 300 مريضةٍ بسرطان الثدي في غزة، تبين أنّ الحرب أثّرت بشكلٍ مباشر على جودة حياة المريضات.
وأشارت الدراسة أنّ التعرّض للنزوح أو فقدان أحدّ أفراد العائلة ارتبط بانخفاضٍ حادّ في الوظائف الجسدية والعاطفية والمعرفية، بينما أدّى انقطاع العلاج الكيميائي وتدمير مراكز الرعاية إلى تدهورٍ نفسيٍّ وجسديٍّ واسع.
في الإطار، تؤكِّد بيانات وزارة الصحة أن سرطان الثدي يمثِّل نحو 30% من إجمالي إصابات السرطان بين النساء في غزة، بمعدل 29 حالة لكل 100 ألف سيدة. وتفيد أن مريضات هذا النوع من السرطان يحرمن من بروتوكولات العلاج المعيارية وبرامج الفحص المبكر، بسبب النقص الحادّ في الأدوية والمستهلكات الطبية وانقطاع التحويلات الخارجية.
حتى حين تهدأ الأعراض، تبقى الندوب النفسية أكثر عمقًا. تقول الأخصائية النفسية ياسمين النجار، التي كانت تتابع العشرات من مريضات السرطان قبل الحرب، إن الدعم النفسي كان ركيزةً أساسية في خطة العلاج.
تقول النجار: "كنا نساعد المريضات على تجاوز صدمة التشخيص والخوف من الموت وتغيّر صورة الجسد. أمّا الآن، فالوضع كارثي: لم تعد الصدمة مرتبطة بالمرض فقط، بل بفقدان الأمان وسبل العيش".
وتشير إلى أن البيئة التي كانت تُعَدُّ جزءًا من التعافي أصبحت مُدمَّرة بالكامل، فلا جلسات دعم ولا مساحات آمنة ولا مراكز تأهيل.
في موازاة هذا الانهيار الداخلي، يبقى الأمل معلّقًا عند حدودٍ مغلقة. تتابع منظمة الصحة العالمية محاولاتها لتنسيق عمليات الإجلاء الطبي، فيما أوضح مديرها العام " تيدروس غيبريسوس" أن تنفيذ هذه العمليات لا يتم سوى "مرّة واحدة أسبوعيًّا"، مشيرًا إلى أن نحو 15,600 مريض، بينهم 3,800 طفل، ما زالوا عالقين في انتظار الخروج من القطاع.
ومع الإعلان الأخير عن نية "إسرائيل" فتح معبر رفح مع مصر، في ظلّ وقف إطلاق النار الحالي، تلوح فرصة صغيرة للنجاة في أن تُفتح الطريق أخيرًا أمام المرضى العالقين، أولئك الذين ما زالوا يحملون حقائبهم الطبية منذ شهور بانتظار معبرٍ يفتح نحو الحياة.
لكن حتى ذلك الحين، يبقى العلاج بالنسبة إلى كثيرٍ من مرضى السرطان في غزة حلمًا مؤجّلاً، إذ إن بطء عمليات الإجلاء والقيود التي لا تزال تُفرض على المعبر تُمثّل حاجزًا إضافيًا أمام الأمل.


