غزة: لا عيد بدون "فسيخ" .. هذا ما قاله السكان

غزة: لا عيد بدون "فسيخ" .. هذا ما قاله السكان

صباح الأول من عيد الفطر، تدخل باكراً غالبية الأمهات بمساعدة بناتهن أحياناً إلى المطبخ، وتغلقن خلفهن الباب وتفتحن النوافذ. هي ليست عملية سرية ولكنها عملية طهي "الفسيخ". 

عملية متشابهة في غالبية البيوت الفلسطينية في قطاع غزة تقريباً، هذا ما تنبأ عنه الرائحة النفاثة التي تنبعث من النوافذ المشرعة على الأزقة والبنايات المتلاصقة ككتلة خرسانية واحدة. تُشعل النسوة النار وتضع عليها مقلاة وقليل من الزيت النباتي ثم تبدأ بوضع قطع الفسيخ واحدة تلو الأخرى.

ليس بالإمكان القول إن كل الناس تخرج من صلاة العيد إلى سفرة الفسيخ، ولكن الغالبية يفعلون ذلك بدافع لا تفسير له، في حين أن البعض لديهم مشكلة مع الرائحة وربما يكونوا بحاجة إلى كمامة واقية.

والفسيخ، هو سمك مُمَلّحْ، يُخزن لعدة أيام، يمتص الملوحة مفرزًا السوائل، ينتشر بيعه في الأسواق بشكلٍ كثيف قبل العيد بأيام، حيث يقبل على شراءه، عشرات وربما مئات الغزيين، يتناولونه صبيحة العيد، بجانب قلاية البندورة "الطشطاشة" مع الفلفل الأخضر.

يحاول السكان التخمين، حول بداية ظهور تلك العادة، وانتشارها، لكنّهم لم يجمعوا على معلومة واضحة ومحددة. بعضهم اعتبرها عادة موسمية ترجعة لقرابة أربعة عقود ماضية، وآخرون اعتقدوا أنها مرتبطة بتحصين المعدة بعد فترة شهر من الصيام، إلا أن الأكيد أن الفسيخ مُضر لمَن يعاني من أمراض مزمنة مثل الضغط أو الفشل الكلوي.

أحمد الكحلوت "58 عامًا"، من سكان وسط قطاع غزة، يعتقد أن عادة تناول الفسيخ في أول أيام العيد، توارثتها الأجيال عن الآباء والأجداد، كنوع من الطقوس دون التبحر بأسباب ذلك. مشيرًا إلى اعتياده على تناوله منذ أنْ كان شابًا في منزل أسرته، وأورث تلك العادة لأبنائه.

محمد جبريل (65 عامًا)، وهو من سكان مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، يظن أن المسألة موروثة أكثر من أنّها مرتبطة بفهم دواعي الاستمرار في المواظبة على هذه العادة الموسمية. يقول جبريل إنّه اعتاد تناول طعام الفسيخ في اليوم الأول من أيام عيد الفطر مذ كان شابًا، ولا يستطيع التخلي عن هذه العادة، رغم تحذيرات أبنائه من تناول الفسيخ المُمّلح.

ويقول جبريل "في أول أيام العيد، اعتدنا على زيارة صلة الأرحام والأقارب، ونضطر لمُجاملتهم بتناول العصائر والشوكولاتة والكعك، مما يتسبب بتوعك في المعدة، إلا لو تناولنا قبلها الفسيخ الذي يساعد على تماسكها".

تتفق أُم حسين البياري من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة مع سابقها حول توارث عادة تناول الفسيخ في أول أيام "الفطر"، وتقول "اعتاد زوجي على شراء سمك الرنجة المملح في آخر أيام رمضان، وأقوم أنا بتجهيزه صبيحة العيد، وعشرات الجيران مثلنا".

الحاجة البياري، والبالغة من العمر "67 عامًا"، مازالت تستمر هي وزوجها بعادتهم، حيث يتجمع أبنائها وأطفالهم في منزلها لتناول الفسيخ، إلا أنها لم تعد تتناوله كالسابق، وتقول مبتسمة لـ آخر قصة "من سنوات أصابني مرض الضغط، وأصبحت أعاني من ارتفاعه في حال تناولته، آكل القليل منه فقط، لكن ما زلت متمسكة بتلك العادة".

وينفي المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض، ارتباط تناول الفسيخ في صباح عيد الفطر، بموقف تاريخي، مشيرًا إلى أنّها علاقة تغذية موروثة أكثر منها تاريخية، وقال "إن قطاع غزة يقع على الساحل، ولربما ارتبطت هذه العادة بموقعه الجغرافي، بمعنى استثمار السمك بأشكال وأطعمة مختلفة، في نهاية المطاف الفسيخ طعمه لطيف" حسب وصفه.

وتشير الروايات إلى أنّ الفراعنة القدماء، هُم أول من قام بتجهيز الفسيخ "سمك الرنجة المملح" المصبوغ باللون الأصفر، ولا يزال المصريون يمارسون عادة تناوله في عيد شم النسيم حتى يومنا هذا.

وتعتمد صناعة الفسيخ وفقًا لما قاله مالك مصنع أسماك الفسخ "علاء الرحال" في نهاية العقد الرابع من عمره، على وضع الملح على السمك بكثافة ومن ثم تخزينه بعيدًا عن الهواء قبل موسم العيد بعدة أشهر، يرجع ذلك حسب نوع السمك المستخدم.

وأشار الرحال إلى أن هناك عدة أنواع مختلفة من الأسماك تُستخدم في تلك الصناعة، منها سمك البوري، والجرع، وهناك سمك الرنجة المدخن بملوحة خفيفة، حيث يجهزون مئات الأطنان منه سنويًا قبل عرضه في الأسواق المحلية.

صناعة الفسيخ غالبًا تتم دون رقابة الجهات الرسميّة، ويتكشّف ذلك من خلال الأعراض التي يشتكي منها الناس في اليوم الأول من أيام عيد الفطر، لاسيما الاضطراب المعوي الذي يرتبط بتناول هذا النوع من السمك، وفق ما قاله الطبيب محمود الغرابلي، والذي حذّر أيضًا من تناول السمك المُملّح بإفراط، خصوصًا لمن يعانون ضغط الدم أو الفشل الكلوي.