يبدأ العد بصوتٍ عالٍ: من واحد إلى عشرة، ثم يصمت الأطفال، وبهذا تنتهي رحلة قطع أشواط الركوب العشرة على الأرجوحة الملونة. منهم من يكتفي بهذا القدر أم العطشى يباشرون بالطلب وبإلحاح من صاحب الأرجوحة: "عمو أمانة كمان شوط".
في مدخل إحدى حارات حي الزيتون شرق مدينة غزة اجتمع عدد كبير من الأطفال الذين يرتدون لباس العيد وتبدو على ملامحهم البهجة حول أرجوحتين حديديتين مثبتتان بأكياس ثقيلة من الرمل.
ينشغل الشاب العشريني أسامة حامد -مالك الأرجوحة– بحمل طفلة صغيرة ووضعها على مقعد الأرجوحة بعدما تصعبت من ذلك، وتزاحم الأطفال حوله بشكلٍ غير منظم وهم يمدون أيديهم بالشواقل التي تعد ثروتهم خلال العيد بعد أن جمعوا العيدية.
الشاب الذي أبدى صبراً واضحاً على ازدحام الأطفال ومشاجراتهم، عبر عن سعادته بأيام العيد رغم التعب باعتبارها أيام رزق تعينه على دفع جزء من رسومه الجامعية، وأوضح أنه منذ ثلاث أعوام أقام هذه الأرجوحة بعدما صممها ونفذها عند أحد الحدادين ولكن يبقى عليه أن يقوم بأعمال صيانة لها قبل كل عيد.
الطفلة سمية ذات الثمانية أعوام ترتدي نظارة سمراء بلاستيكية وتحمل حقيبة صغيرة لامعة تجلس على كرسي الأرجوحة وهي تحتضن اختها الأصغر ويتطاير شعرها مع كل دفعة محاولة امسكاه بيدها الأخرى تقول: "كل عيد لما نتعيد من بابا لازم نلعب عالمراجيح أنا واخواتي وبنات جيرانا وبننبسط سوا".
وتعد الأراجيح الحديدية من أكثر المظاهر شيوعاً في الأحياء الفقيرة والمخيمات بقطاع غزة حيث تعد وسيلة التسلية الأقل تكلفة وتنشط غالباً في المواسم والأعياد، فرغم وجود العديد من مدن الملاهي التي لا يسمح بدخولها إلا من خلال الحصول على التذاكر بمبلغ يتراوح بين 2 -5 شيكل للشوط الواحد.
يشير صاحب ورشة حدادة يدعى عبد الله شاهين، إلى أن الطلب على صناعة الأراجيح تراجع خلال سنوات الحصار الأخيرة، رغم أنها تعد الوسيلة الترفيهية الأقل تكلفة، مرجعاً ذلك لإرتفاع تكلفة المواد الخام اللازمة لصناعتها.
ويشير شاهين إلى أنه على الرغم من توفر بدائل لتسلية الأطفال، إلا أن الأرجوحة لا تزال تشكل اللعبة الأولى في المناطق الفقيرة من قطاع غزة، لاسيما أنها لا تصاب بالأعطال كالألعاب البلاستيكية أو الإلكترونية الأخرى، وأن كل ما تحتاجه من وقت لآخر هو طلاء أعمدتها فقط.
واعتمد في العقود السابقة في صناعة الأرجوحة على الخشب، ثم تطورت تدريجياً إلى أن أصبحت تصنع من قضبان الحديد وبأحجام وأشكال مختلفة، والأكثر شهرةً منها ذات المقعدين.
وقديماً كانت أراجيح الأطفال أكثر بدائية حسب الستيني أبو محمد الذي أوضح أن الأرجوحة قديماً كانت من الحبال المعلقة بين أغصان شجرة الحي الأكثر قوة حيث يربط رأسي الحبل في أعلى الشجرة ويوضع فوقها وسادة قطنية يجلسون عليها ثم يتقافزون في الهواء بعد أن يدفعون بعضهم البعض من الخلف متابعاً : "كانت أحلى أيام .. قول للزمان ارجع يا زمان " .
ووفقاً لموسوعة "ويكيبيديا" فإن للأرجوحة أصل من أسطورة رومانية تقول: أن المعبود الروماني (باكشيس) "إله الخمر والنبيذ" غضب في إحدى سنوات الجدب على مزارعي العنب (الكرم) بسبب تقصيرهم لإنتاج العنب في ذلك العام وأمرهم بأن يقوموا بألعاب بهلوانية صعبة تعرض حياتهم للخطر، وبهذه الطريقة يكفرون عن ذنوبهم ومن ثم يرضى عما يشاء منهم ويرزقهم بالمحصول الوفير مرة أخرى . وكان من ضمن تلك الألعاب لعبة عبارة عن التأرجح الفردي أو الجماعي مع الحركات البهلوانية على حبل معلق بين شجرتين عاليتين.
وبعد ذلك اتخذت الأرجوحة رمزاً روحانياً ودينياً مقدساً يعمل في الأعياد والمناسبات ولا يقوم بها إلا أناس ذووا خبرة عالية ومراس شديد. ثم انتشرت اللعبة في جميع أوروبا في عروض السيرك المثيرة. أما اليوم فقد ذاع صيتها بين الناس والأطفال خصوصا فلا تكاد تخلو منها الحدائق العامة والملاهي والبيوت، وحتى رياض الأطفال والمدارس، بل حتى في محطات القطار في بعض البلدان. وذلك للهو واللعب والمرح وتمضية الوقت مع الأصدقاء والأحباب في جميع المناسبات.