محركات الصمت: عندما توقفت عجلة القيادة في غزة

محركات الصمت: عندما توقفت عجلة القيادة في غزة

يقف ماهر أبو دقة أمام بوابة مدرسته لتعليم قيادة السيارات التي كانت تعجّ بالحياة يومًا. يغمض عينيه، محاولًا الهروب من المشهد، فتتدفق إلى ذاكرته صور الافتتاح الأول عام 2018، والآمال التي نسجها بحبٍّ وأناة. لكن حين يفتح عينيه، لا يرى سوى ركامٍ صامت يروي حكاية حلمٍ هُدم.

يضع يده على قلبه ويسير مبتعدًا، تاركًا خلفه المكان الأقرب إلى روحه، بعدما أطفأت الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ عامين على قطاع غزة شمعته منذ يومها الأول في أكتوبر 2023.

يقول أبو دقة وهو يتأمل صور المدرسة قبل تدميرها: "لحظة رؤيتي للمدرسة مُدّمرة آلمتني جدًا، فمن مكانٍ يعج بالحياة، إلى مكان خيّم عليه الصمت والموت. الخسارة لم تكن في المال فحسب، بل في الروح والمعنويات."

امتدّت فترة الإنشاء والتمويل لمدرسة "إيليت" إلى ثلاث سنوات، بتكلفة بلغت 250 ألف دولار، وضمّت بين أروقتها 15 موظفًا، وثلاث سيارات حديثة مخصصة للتدريب الميداني، إضافة إلى شاحنة تدريب تجارية مصممة خصيصًا بغرفة FIP، لتكون الأولى من نوعها في غزة.

يضيف الرجل الذي غمر الحزن عينيه: "بعد تدمير المدرسة بكل محتوياتها، لم أعد أملك مصدر دخل ثابت، وما زلت أواجه تبعات الديون والشيكات التي تراكمت خلال سنوات التأسيس، دون أي تعويض أو دعم من أي جهة. كما فقد موظفو المدرسة مصدر رزقهم، لكنني أنتظر نهاية هذه الأحداث لأعود مجددًا ونعود للعمل معًا".

لكن أحلام العودة تصطدم بواقعٍ مرير، فأبو دقة ليس وحده في هذا المصير. وبحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، يوجد في غزة 71 مدرسة لتعليم قيادة السيارات، يعمل فيها 258 مدربًا، 230 مركبة، ومئات العاملين، جميعهم فقدوا مصدر دخلهم الوحيد منذ اندلاع الحرب.

وفق تقديرات رسمية أُعلنت في أبريل 2024، تجاوزت خسائر قطاع النقل في غزة 3 مليارات دولار، وتعرّضت نحو 65% من شبكة الطرق (ما يقارب 945 كيلومترًا) للتدمير، كما تضررت أكثر من 55 ألف مركبة (قرابة 60% من المركبات المرخّصة). وتشير تقييمات أممية لاحقة في 2025 إلى أن نسبة الضرر في شبكة الطرق ارتفعت لتصل إلى نحو أربعة أخماس من الشبكة المصنّفة.

ويرى مختصون أنّ هذه الأرقام تضع خسائر مدارس تعليم القيادة في سياق أوسع يعكس الانهيار الكامل للبنية التحتية التي تعتمد عليها، من الطرق إلى السيارات إلى منظومات الترخيص والتشغيل.

كما أظهر تقرير وزارة النقل والمواصلات لعام 2022 أن عدد الرخص الصادرة في غزة بلغ 13 ألفًا و477 رخصة، لكن منذ بدء الأحداث الجارية توقّف العمل كليًا، وتحوّلت مدارس القيادة إلى مشاهد من الخراب.

وبعد عامين من استمرار النزاع، أصبحت مدارس القيادة في غزة شواهد على الأسفلت، تروي حكاية زمن كان بالإمكان فيه قيادة المستقبل. اليوم، لم يعد هناك سوى صمت يُخيم على محركات توقفت عن الدوران.

إحدى هذه المدارس هي مدرسة النصر لتعليم قيادة السيارات، التي تأسست عام 1983، وكانت توفر عملًا لعشرة أشخاص. اليوم، لم يبقَ منهم سوى عامل واحد فقط، بعد استشهاد اثنين، وفقدان البقية عملهم.

يقول مالكها، أبو فوزي مشتهى، بصوتٍ يغلبه الأسى: "دُمِرت ثلاث سيارات تابعة للمدرسة، بلغت قيمتها 72 ألف دولار، كما دُمر مقر المدرسة المستأجر. كنت في بداية 2024 على وشك نقلها إلى مقر جديد من خمسة طوابق اشتريته بعد عناء، لكنه دُمر أيضًا بعدما كلفني 200 ألف دولار."

نجت بعض سيارات المدرسة من الدمار، وتمكن مشتهى من إصلاح إحداها ويستخدمها حاليًا، بينما اضطر إلى بيع أخرى بخسارة بلغت 10 آلاف دولار، أما المركبات التجارية، فباعها بعد إصلاحها مقابل 13 ألف شيكل فقط.

يوضح مشتهى أن خسارته لم تقتصر على المدرسة وحدها، بل شملت أيضًا شاليهًا خاصًا به كلفه آلاف الدولارات. يقول بصوت مختنق: "عندما ذهبت للمكان الذي عملت فيه 31 عامًا، شعرت وكأن روحي اقتُلعت. حينها أدركت أنني لن أعود للمهنة، فقد تقدّمت في العمر، وهناك شيء انكسر في داخلي لن يشفى."

من جهته، يؤكد أنيس عرفات، المتحدث باسم وزارة النقل والمواصلات في غزة، أنّ الوزارة لم تتمكن بعد من تنفيذ إحصاءات ميدانية دقيقة حول حجم الأضرار التي لحقت بمدارس القيادة نظرًا لاستمرار النزاع. لكنه أشار إلى أنّ التقديرات الأولية تفيد بأنّ نحو 90% من المدارس قد دُمرت بالكامل.

وأوضح عرفات أنّ الوزارة، خلال فترة وقف إطلاق النار المؤقت في يناير الماضي، فعّلت رابطًا إلكترونيًا عبر منصاتها الرسمية لتمكين المواطنين من تسجيل الأضرار التي لحقت بمركباتهم وممتلكاتهم، تمهيدًا لحصرها لاحقًا بشكلِ دقيق، لكن الوزارة لم تُعلن حتى الآن نتائج الحصر أو جدولًا زمنيًا للتعويض.

الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم تُدمر الحجر فقط، بل أعادت تشكيل الاقتصاد اليومي وسبل العيش. مدارس تعليم القيادة كانت تمثل مصدر رزق لمئات العاملين، وأملًا للشباب في تعلّم مهارة تفتح أمامهم أبواب العمل؛ لكن اليوم، صَمَتت أصوات المحركات، وخيّم الركود على قطاعٍ كان ينبض بالحياة.

يقول المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر إن تدمير مدارس القيادة شكل ضربة قاسية لقطاعٍ كان يُعد مصدر دخل رئيسيًا للعديد من الأسر، إذ فقد مئات الشباب فرصهم في العمل كسائقين ومدربين، وتوقف الطلب على الرخص الجديدة تمامًا.

يردف: "كانت هذه المدارس تخرج سنويًا آلاف الأشخاص المؤهلين لدخول سوق العمل في مجال القيادة، لكن القطاع اندثر بالكامل، وتعرّض لخسائر جسيمة طالت الأصول التشغيلية وتراكمت التكاليف دون أي عوائد مالية طوال العامين الماضيين."

ويؤكد أبو قمر أنّ عودة هذا القطاع للحياة لن تكون سهلة، إذ تتطلب إعادة تأهيل للبنية التحتية وإصلاح الطرق المتضررة، وهو ما يحتاج إلى فترة طويلة وجهود مكثفة قبل أن يستعيد قطاع غزة نشاطه الاقتصادي السابق.

من الناحية القانونية، يوضح المحامي رامي محسن أنّ تدمير مدارس تعليم القيادة – بوصفها أعيانًا مدنية – يُعد انتهاكًا للقانون الدولي.

ويستند محسن في قوله إلى المادة (53) من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تحظر تدمير أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة، سواء كانت لأفراد أو جماعات أو منظمات اجتماعية أو تعاونية.

ويرى أن استهداف الاحتلال لهذه المنشآت المدنية يضعه في منزلة مرتكب جرائم حرب؛ وذلك انسجامًا مع أحكام المادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

ويؤكد محسن أن القانون الدولي لا يكتفي بتحريم استهداف المنشآت المدنية، بل يُلزم الجهة المعتدية بدفع تعويضات مالية للمتضررين، وفقًا لاتفاقية لاهاي لعام 1907 التي نصت على وجوب تقديم التعويض "بأسرع وقت ممكن". 

كما يُلزم القانون الأساسي الفلسطيني السلطة الوطنية نفسها بتعويض مواطنيها عن الأضرار التي لحقت بممتلكاتهم، استنادًا للمادتين (22) و(23) منه، اللتين تعتبران رعاية المتضررين "واجبًا تنظمه أحكام القانون".

هذه المبادئ القانونية، كما يرى محسن، تُبرز حجم الفراغ القائم اليوم في آليات جبر الضرر، وتجعل من تدمير مدارس تعليم القيادة جزءًا من ملفٍ أوسع لتقاعس المجتمع الدولي والسلطات المحلية عن ضمان حق المتضررين في التعويض.

في النهاية، لا يقتصر تدمير مدارس القيادة على فقدان منشآت أو سيارات، بل يمتد إلى وجعٍ يومي تعيشه الأسر التي فقدت مصدر رزقها الوحيد، وآلاف الشباب الذين كانوا يرون في هذا القطاع بداية طريق نحو العمل. اليوم، الواقع قاسٍ، والأفق مسدود، وصوت المقود ما زال صامتًا في غزة التي تبحث عن طريقٍ للعودة إلى الحياة.