نازحون في العراء.. والأمنية الأولى خيمة

نازحون في العراء.. والأمنية الأولى خيمة

على شاطئ بحر النصيرات وسط قطاع غزة، تغفو فادية رجب (39 عامًا) تارة، وتستيقظ على صوت زامور شاحنة قادمة من شمال القطاع. تلتفت نحو صغيرها ذي الخمس سنوات، بملابسه الرثّة ووجهه المغبر، يهمس إليها بحاجته إلى الذهاب للمرحاض. تتلعثم الكلمات على لسانها، لا تعرف بماذا تردّ سوى أن تتمتم بصوتٍ خافت: "تركنا البيت… وسنعيش في الشارع".

تنظر حولها، فتجد الأسر النازحة مثلها مبعثرة على الرمال: أطفال يبكون، وأمهات يفتشن عن قطرة ماء. السماء صارت سقفًا، والرمال فراشًا، والحياة على الشاطئ امتدادٌ للمنفى الذي لا ينتهي.

تنظر حولها، فتجد الأسر النازحة مثلها مبعثرة على الرمال، أطفال يبكون، وأمهات يفتشن عن نقطة ماء. السماء صارت سقفًا، والرمال فراشًا، والحياة على الشاطئ امتدادٌ للمنفى الذي لا ينتهي.

تقول بصوتٍ مختنق: "نزحنا من حي الجلاء وسط المدينة، وهذه المرة الأولى منذ اندلاع الحرب قبل عامين التي نضطر فيها للنزوح نحو الجنوب، لا نملك خيمة تأوينا. أجلس على البحر منذ ساعات أنتظر زوجي ليعود ويأخذني إلى خيمة أحد معارفنا، مؤقتًا حتى ندبّر أمرنا".

بعد أسبوعٍ من البحث المضني، وجدت العائلة متسعًا في أرضٍ خاصة، لكن المعضلة بقيت أنّهم لا يملكون خيمة. حملت رجب وزوجها أغراضهم القليلة، ومعهم أربعة أطفال، واستأجروا قطعة أرض صغيرة مقابل 400 شيكل. هناك، في العراء، ظلّوا بلا سقف يحميهم من الشمس أو المطر.

بعد يومين من البحث عن خيمة بأسعارٍ "جنونية"، نظرت السيدة إلى أكوام الحقائب المكدّسة بجانبها وقالت: "أعطانا أحد أقاربنا شادرين لنغطي أنفسنا، واشترى زوجي أخشابًا لينصب مساحة صغيرة تؤوينا. طلبنا من جيراننا استخدام مرحاضهم حتى ننشئ واحدًا خاصًا بنا".

لكن هذه العائلة ليست حالة فريدة؛ فآلاف الأسر في قطاع غزة تواجه المصير ذاته، بعدما أصدر الاحتلال الشهر الماضي أوامر بإخلاء مدينة غزة، ما دفع أكثر من مليون إنسان إلى النزوح جنوبًا، وجعل الحصول على خيمة أشبه بالمستحيل.

ووفقًا لتقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن نحو 1.9 مليون شخص — أي ما يعادل 85% من سكان القطاع — اضطروا للنزوح منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، ويعيش مئات الآلاف منهم في العراء أو في مأوى مؤقت دون خيام أو خدمات أساسية.

في الأسواق، باتت الخيام نادرة الوجود ومرتفعة الثمن، والبحث عن مأوى، حتى غرفة صغيرة للإيجار، صار حلمًا بعيد المنال. وتشير دراسات محلية إلى أن كثيرين نزحوا أكثر من عشر مرات، بعد أن طالت أوامر الإخلاء نحو 86% من مساحة غزة.

انعدّام الخيام وتكدّس مراكز الإيواء في وسط وجنوب القطاع جعلا الغزيين في مواجهة العراء، فيما ترفض سلطات الاحتلال إدخال مستلزمات الإيواء من شوادر بلاستيكية وأخشاب وكرفانات.

زكريا زيد (33 عامًا)، أب لثلاثة أطفال، كان يعمل حارس عمارة سكنية في مدينة غزة قبل أن تُقصف وتتحوّل إلى أنقاض، فقد بيته وعمله معًا. في بداية الأحداث الجارية نزح إلى خانيونس جنوب القطاع، ثم عاد إلى غزة قبل أن يفرّ مجددًا نحو الجنوب حين اقتربت الدبابات الإسرائيلية من منزله المدمّر جزئيًا. 

يقول زيد: "كان لدي في بداية الحرب خيمة، لكنها اهترأت بفعل الشمس ولم تعد صالحة، تركتها في المكان الذي كنت أنزح فيه، والآن أعود لحياة النزوح من جديد، بلا خيمة ولا مال لأشتري واحدة."

يقيم زيد الآن مع والدته وشقيقاته في خيمة بمدينة خانيونس جنوبًا، لكنه ما زال يبحث عن خيمة بسعرٍ "معقول"، ويتواصل مع أصحاب مبادرات ومؤسسات أهلية على أمل الحصول على مساعدة مالية لتغطية تكاليف خيمة جديدة.

أما كوثر حسان (61 عامًا)، وهي نازحة من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة إلى النصيرات وسط القطاع، تقيم مع زوجها وابنتها مع ابنها وعائلته في خيمته، لكنّها صغيرة جدًا لا تتسع لثمانية أفراد. 

تروي بصوتٍ منهك ودموعها تسبقها: "نزحنا تحت القذائف، ولم نأخذ سوى القليل من أغراضنا من المدرسة التي كنا ننزح فيها بغزة. وضعنا مأساوي ونحتاج خيمة بشكلٍ عاجل، فزوجي مريض ويحتاج لهدوء وعناية خاصة."

تنوي حسان شراء خيمة لكنها لا تملك سوى 350 شيكلًا، المبلغ المتبقي من عقدها الذهبي الذي باعته لتدفع تكاليف النقل من غزة إلى محافظات الجنوب. تقول: "أنتظر أن تنخفض الأسعار لنستطيع تأمين خيمة ونصبها بجانب خيمة ابني."

كانت تتلّقى مساعدات نقدية من وزارة التنمية الاجتماعية تعرف بـ "شيكات الشؤون الاجتماعية" وهي تُقدّم لحالات خاصة كل ثلاثة أشهر، تتراوح قيمتها بين 700 -1800 شيكل، لكنها انقطعت منذ اندلاع الحرب نتيجة ما بررته الجهات الرسمية بتأخر التمويل الأوروبي؛ ما وضعها في مأزق قاسٍ.

خالد صالح (46 عامًا) وجد نفسه في الشارع بعد أن دُمّر المربع السكني الذي يقطن فيه بخانيونس جنوب القطاع، فلجأ إلى خيمة شقيقته في منطقة المواصي غرب مدينته. 

يتأمل القماش المهترئ قائلاً: "خيمة أختي صغيرة جدًا وبالكاد تكفي سبعة أشخاص، وهي أصلًا لا تصلح للشتاء. استدنت مالًا من صديقي لأشتري شوادر وأخشابًا لصنع غرفة، لكن من يبيع يريد عملة جديدة وليست مهترئة، لذلك ما زلت عالقًا بلا خيمة".

وبعد تنهيدةٍ ثقيلة، يتساءل صالح: "أين المؤسسات المختصة؟ أين وزارة التنمية الاجتماعية؟ ألا يستطيع أحد إغاثتنا بخيمة أو حتى مالٍ نشتري به خيمة من السوق بهذا السعر المجنون؟".

غسان فلفل، مسؤول في وزارة التنمية الاجتماعية في غزة، يقرّ بأن الوزارة تواجه صعوبات كبيرة أدت إلى توقف عملها في مساعدة النازحين، رغم جهودها السابقة في توفير الخيام. 

ويؤكد فلفل أن السبب الأساسي هو منع سلطات الاحتلال إدخال الخيام ومستلزمات الإيواء. ومع ذلك يشير إلى أنّ الوزارة تواصل التنسيق مع مؤسسات إغاثية بحثًا عن حلول. يقول: "في حال السماح بإدخال الخيام، سنكون على أتم الاستعداد لإغاثة النازحين".

أما فراس الرملاوي، مدير مكتب هيئة خدمات الأصدقاء الأمريكية (AFSC) ، فيوضح أنّ جهودهم تتركز على التنسيق مع مؤسسات دولية يُسمح لها من قبل الاحتلال بإدخال شاحنات إلى غزة، مثل اللجنة السعودية والجمعية القطرية، لتوفير الخيام، لكن الأمر ما زال يواجه تعقيدات. 

يردف: "حاولنا شراء خيام من السوق السوداء، لكن الأسعار ارتفعت إلى مستويات خيالية. لم نتمكن من تغطية احتياجات الأعداد الكبيرة من النازحين. إذا سُمح بإدخال الخيام بكميات كافية، يمكننا شراؤها وإنشاء مخيمات جديدة".

في ضوء هذا الواقع المناقض للقوانين الدولية، يرى حقوقيون أن منع النازحين من الحصول على الإمدادات الإنسانية يُعدّ انتهاكًا صارخًا للمواثيق التي تكفل حق الإنسان في عيشٍ كريم، استنادًا إلى المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر العقاب الجماعي، فيما يقرّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق كل فرد في السكن والكرامة الإنسانية.

اليوم، ما زال آلاف النازحين في الشوارع، يبحثون عن خيمة تقيهم الحر والبرد. لا حلّ يلوح في الأفق، والسماء وحدها تظلّ سقفًا لهم. وبين الرياح الباردة وصمت العالم، يتردّد سؤال واحد على ألسنتهم جميعًا: إلى متى سنبقى على الرمال، ولا سقف يأوينا سوى السماء؟