في خيمة صغيرة في بلدة الزوايدة وسط قطاع غزة، جلست ريهام جبر تستعيد تفاصيل مأساة فقدان جنينها. كانت في شهرها السادس حين أجبرها نزيف حاد ومضاعفات متسارعة على الخضوع لعملية قيصرية عاجلة.
الأطباء في المشفى البلجيكي في البلدة، الذين نجحوا في إنقاذ حياتها، اكتشفوا عبر التصوير بالموجات فوق الصوتية أن الجنين مصاب بتشوهات حادّة في الأطراف؛ ما يُشير إلى احتمال كبير للإصابة بالكساح إن اكتمل نموه.
أمام تشخيص التشوهات الحادّة التي لا تُترك مجالًا للأمل، كان قرار الأطباء الجماعي هو إنقاذ الأم أولًا. تقول جبر إنّ الحمل لم يكن عاديًا منذ البداية ؛ فقد نجت ثلاث مرات من الموت خلال القصف، وواجهت النزوح المتكرر، واستنشقت كميات هائلة من الدخان والغبار.
كما أنّ هذه الأم لم تحصل على أيّ نوع من الرعاية الطبيّة اللازمة في الأشهر الأولى من حملها، وهي ترى أن تدّاعيات الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ عامين انعكست مباشرة على صحة جنينها.
هذه المأساة الفردية ليست استثناءً. الأرقام الرسمية تكشف عن أزمة متفاقمة تُهدد آلاف النساء والأطفال في غزة. وفق وزارة الصحة بغزة، سُجلت منذ بداية العام أكثر من 19 ألف ولادة، بينها 1,525 حالة مبكرة، و2,330 مولودًا احتاجوا إلى رعاية عاجلة في حضانات حديثي الولادة.
أما نسبة المواليد بوزن منخفض "أقل من 2,5 غرام" بلغت 8.9%. وسُجلت 2,869 حالة إجهاض، و145 وفاة لحديثي الولادة، شكّلت التشوهات الخلقية السبب الثاني لها بنسبة 31.7%.
أما الولادات القيصرية فبلغت ربع مجموع الولادات تقريبًا، بينها ما يقارب النصف عمليات طارئة. وبحسب خبراء في المجال الطبي تعكس هذه الأرقام وضعًا لا يمكن وصفه بالاستثناء أو الحالات الفردية؛ بل أزمة صحيّة عامة.
سميرة عبد الرحمن (38 عامًا) عاشت التجربة ذاتها. خلال حملها السابع تنقلت من منطقة إلى أخرى بلا متابعة طبية أو حتى زيارة واحدة لعيادة؛ إذ اعتمدت على خبرتها وتجاربها السابقة، لكنّها واجهت إعياءً متكررًا لم تدرك خطورته.
المفاجأة التي صدمت هذه السيدة كانت عند الولادة، عندما أنجبت طفل بعيوب خطيرة في الجمجمة والرأس جعلت حياته قصيرة منذ اللحظة الأولى، رغم أنّ وزنه كان قريبًا من الطبيعي. تقول عبد الرحمن: "انتظرت قدوم طفلي السابع، لكني فقدته فور ولادته، النزوح والدخان وحرمان الرّعاية كلها اجتمعت ضدّنا".
الأطباء يرون أن هذه المآسي ليست سوى نتيجة مباشرة لانهيار منظومة الصحة كاملة في قطاع غزة بفعل النزاع الدائر. فغياب أبسط مقومات الرعاية، من أجهزة التشخيص المبكر إلى الأدوية الأساسية، جعل الحمل في ذاته مخاطرة يومية.
الطبيب عيادة أبو حصيرة، استشاري النساء والولادة، يؤكد أنّ غياب الغذاء الصحي مثل الخضار واللحوم الطازجة، والاعتماد شبه الكامل على تناول المعلبات، إلى جانب نقص الحديد والكالسيوم وفيتامين "د"، كلها عوامل تُغذي الكارثة.
ويضيف أنّ الكالسيوم غير متوفر إطلاقًا في القطاع، بينما تُحرم النساء من المكملات التي يفترض أن ترافق أي حمل طبيعي. ومع هذا النقص المزمن، يتعرضن في الوقت نفسه للغازات السامة والدخان الناتج عن القصف والحروب، ما يجعل أجسادهن أكثر هشاشة ويضاعف احتمالات التشوهات والإجهاض.
بدوره، يؤكد مدير جمعية الإغاثة الطبية في غزة، محمد أبو عفش، أنّ الكارثة الصحية لا تقتصر على نقص الغذاء والدواء، بل تمتد إلى التأثير المباشر للغازات والأبخرة السامة الناتجة عن القصف والمواد المتفجرة، والتي انعكست بشكل واضح على صحة النساء الحوامل وأجنتهن.
ويضيف أبو عفش أن تدمير معظم مراكز الإغاثة الطبية حرم آلاف النساء من المتابعة والفحوصات الدورية، ما ضاعف من احتمالات الإجهاض والتشوهات الخلقية. ويرى أنّ غياب الإحصاءات الدقيقة لا يلغي حقيقة تفاقم الأزمة، لكنه يشدد على أن جمع البيانات بشكل منظم بات ضرورة ملحّة لتوثيق حجم الكارثة الصحية التي تعصف بالحوامل وأطفالهن في غزة.
لكن أين دور الجهات الرسمية في تأمين الرعاية الطبية والحدّ الأدنى من التشخيص المبكر للحوامل الذين تجاوز عددهم 55,000 امرأة؟ يوضح أبو حصيرة أن الكشف عن التشوهات الجينية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل أصبح شبه مستحيل بسبب قلّة الأجهزة الدقيقة، بينما في السابق، كانت هناك أربعة أجهزة متاحة، أما الآن فباتت نادرة.
ومع محدودية التحويلات الطبية إلى خارج قطاع غزة منذ بداية الحرب، لم يعد أمام الأمهات أي خيار للحصول على عمليات طبية علاجية أو متابعة متخصصة، لكن لسان حال الأمهات اللواتي يفقدن أطفالهن الذي يتردد صداه في الفراغ هو: لماذا هذه التحويلات معقدة ونادرة؟ ولماذا لم تضغط المؤسسات الدولية لإيجاد بدائل عاجلة؟
الأرقام الواردة عن وزارة الصحة، تكشف أيضًا عن 119 حالة ولادة لأمهات دون سنّ 16 عامًا، و274 حالة ولادة ميتة. بينما تصدّر تعفن الدم أسباب وفيات حديثي الولادة بنسبة 33.6%، تليه التشوهات الخلقية.
وتطرح هذه المؤشرات أسئلة مؤرقة: كيف يمكن لنظام صحي يدرك حجم المشكلة أن يظلّ مكبّل اليدين أمام حرمان النساء من أبسط الأدوات والفيتامينات؟ ولماذا لم يُسمح بإدخال شحنات دوائية أساسية مثل الكالسيوم والمكملات الغذائية، رغم معرفة الجهات الدولية بخطورتها على حياة الأجنة؟
مدير دائرة المعلومات في وزارة الصحة، زاهر الوحيدي، يقول إنّ العجز عن تقديم الرعاية المطلوبة للحوامل لا يرتبط فقط بضعف الإمكانات المحلية، بل بواقع فرضته تقييدات الاحتلال الإسرائيلي التي أغلقت المعابر ومنعت وصول الأدوية، فيما اكتفت المؤسسات الدولية بإصدار بيانات دون أن تضمن وصول الحدّ الأدنى من الرعاية للأمهات وأطفالهن.
قانونيًا، يصف المحامي المتخصص في القانون الدولي يحيى محارب، هذه الانتهاكات بأنها خرق صارخ لحقوق النساء والأطفال المكفولة في المواثيق الدولية، وعلى رأسها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة (سيداو) واتفاقية حقوق الطفل، اللتين تلزمان الدول بتأمين الرعاية الصحية الأساسية خلال الحمل والولادة.
ويرى محارب أنّ استمرار حرمان النساء في غزة من هذه الحقوق، تحت الحصار والنزاع، يرقى إلى معاملة غير إنسانية قد تندرج في إطار الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني.
وبينما يشير الوحيدي إلى أنّ هذه الإحصاءات "تعكس العبء الثقيل على النظام الصحي"، يقرّ في الوقت نفسه بأنّ الأرقام وحدها لا تروي القصة كاملة. يبقى السؤال معلّقًا: إلى متى سيستمر هذا الانهيار في التدفق دون أفق؟ وكيف يمكن للمجتمع الدولي أن يواصل صمته أمام حرمان النساء من حق أساسي في متابعة الحمل والتشخيص المبكر؟
المؤشرات الصحية اليوم في غزة لا تكشف فقط عن معاناة فردية، بل عن سياسة إهمال مركبة: نزوح مستمر يقطع سبل الوصول إلى العيادات، نظام صحي عاجز عن توفير أجهزة وأدوية أساسية، ومنظمات دولية تكتفي بالبيانات والنداءات. والنتيجة واضحة: أمهات يفقدن أطفالًا بتشوهات كان يمكن علاجها أو الوقاية منها، لولا أن الرعاية أصبحت رفاهية مفقودة.