في خيمة نُصبت في منطقة المواصي بخانيونس جنوب قطاع غزة، يجلس عشرات الأطفال على فراشٍ أرضي بالٍ تتصاعد منه حرارة الرمل اللاهبة. يزيح بعضهم أجسادهم بعيدًا عن الآخرين طلبًا لهواءٍ يكاد يكون معدومًا، فيما يمسح آخرون وجوههم الصغيرة بأكمامهم المبتلة بالعرق.
الشمس تخترق الشوادر البلاستيكية المهترئة فتغمر المكان بحرارة خانقة، وتجعل الدفاتر القديمة التي بين أيديهم أشبه بصفحات بالية. يخطّون عليها بخطوط مرتجفة، تائهة بين وهج الحر وأصوات القصف التي تقحمهم في واقع الحرب.
وسط هذا الجو الخانق، تتحرك المربية دعاء إياد (41 عامًا) بخطوات مثقلة، تحمل في يديها علبة صغيرة تحوي بضع أقلام متبقية من تبرعات شحيحة جاءت بها إحدى المبادرات المحلية غير الرسمية.
توزع المربية الأقلام على الصغار بابتسامة متعبة تخفي قسوة المشهد، وتقول: "هذه ليست روضة، إنها مساحة صغيرة كي لا ينسى الأطفال معنى الطفولة." تختصر بكلماتها المفارقة؛ فالخيمة تحوّلت إلى فصل، والأرضية الرملية إلى مقعد، والحرارة اللاهبة إلى جرس يومي مزعج يقطع الدرس.
الخيمة التي يجلس فيها الصغار لم تكن يومًا فصلًا دراسيًا، لكنها صارت بديلًا اضطراريًا بعد أن سويت عشرات الرياض بالأرض، فمنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّلت مئات الرياض إلى أنقاض، وما تبقى منها إما نزح عنه الأطفال أو امتلأ بأسرٍ نازحة تبحث عن مأوى.
ووفق الأرقام التي صدرت عن مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية حول دراسة مقارنة حقوق العاملات في رياض الأطفال الخاصة بين العامين 2021- 2024 حجم الفجوة الحاصلة نتيجة الأحداث الجارية.
وتظهر الدراسة أنه يوجد في قطاع غزة في الفترة المذكورة 620 روضة أطفال، يعمل فيها نحو 3,400 مربية وتستقبل حوالي 68,392 طفلًا.
الثلاثينية ريم عبد الهادي، نازحة من وسط خان يونس إلى غربها، تقول وهي تمسك بيدّ طفلها: "أُحضره إلى الروضة ولو كانت خيمة، فقط لأشعر أنه ما زال يعيش جزءًا من طفولته." إذ تختزل بكلماتها تختزل شعور آلاف الأمهات اللواتي يبحثن عن فسحة صغيرة من الحياة الطبيعية لأطفالهن وسط الخراب.
غير أن البيانات تكشف حجم التراجع القاسي في التعليم المبكر؛ إذ لا تتجاوز نسبة الالتحاق 58% في غزة، مقارنة بـ 72% في الضفة الغربية. أما نسبة الملتحقين بالرياض في غزة 0,6% فقط، مقابل 10% في الضفة الغربية. هذا التراجع يعكس أثر الحرب المباشر على مرحلة الطفولة المبكرة، ويكشف هشاشة البنية التعليمية أمام دمار المدارس وتحول كثير من الرياض إلى ملاجئ للنازحين.
الخبير التربوي أشرف كحيل يوضح أنّ تراجع نسب الالتحاق لا ينعكس فقط على الأطفال، الذين يخسرون بيئة التعليم المبكر، بل يمتد أثره إلى المربيات أنفسهن. ويقول: "الطفل في هذه المرحلة يحتاج إلى مساحات آمنة تعزز مهاراته الاجتماعية واللغوية، لكن الحرب حرمته من ذلك وأدخلته في دائرة الخوف والقلق".
وفي المقابل، تواجه المربيات ضغطًا نفسيًا ومهنيًا هائلًا، إذ يُطلب منهن أداء دور تعليمي وتربوي في ظروف لا تصلح حتى للعيش، من دون أي دعم أو حماية قانونية.
تتفاقم الأزمة أكثر مع تراجع أعداد الملتحقين؛ فغالبية الرياض تعتمد بشكل أساسي في تمويلها على الأقساط التي يدفعها الأهالي، وهي المصدر شبه الوحيد لتأمين أجور العاملات. فانخفاض أعداد الطلبة يعني تراجع هذه الإيرادات، ما يؤدي إلى انهيار رواتب المربيات المتدنية أصلًا.
توضح المربية نداء عدنان (38 عامًا) هذه الأزمة بقولها: "انخفض راتبي الذي لا يتجاوز حاليًا 300 شيكل، وأحيانًا أتأخر في قبضه شهرين متتالين إلى النصف تقريبًا في الحرب، ومع ذلك لا أستطيع ترك العمل لأنني أعيل أسرتي."
وفقًا لكحيل، فإن هذه المعادلة خطيرة على مستويين: فهي تهدد بتراجع جيل كامل من الأطفال، حُرموا من التعليم المبكر، وتترك في الوقت نفسه الطاقم التربوي الذي يشكّل عماد العملية التعليمية المبكرة مرهقًا ومهملًا بلا حماية.
علا رجب (33 عامًا) معلمة في إحدى رياض الأطفال بمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، كانت تتقاضى 600 شيكل قبل الحرب، واليوم لا تحصل سوى على 450 شيكلًا. تقول رجب وهي أمّ معيلة لطفلين: "الراتب لا يكفي لسدّ احتياجاتي الأساسية الشهرية، بالكادّ يكفي لشراء شيء من الدقيق والأرز".
زميلتها زينب محمد (34 عامًا)، راتبها لا يتجاوز 300 شيكل (أقل من 100 دولار)، تقول: "ما أتقاضاه لا يغطي تكلفة مواصلاتي للمكان؛ لذلك أذهب للعمل مشي كل يوم، حتى عباءتي المهترئة بفعل المشي تحت حرارة الشمس لم أستطع استبدالها".
تشتكي المربيات -على الرغم من ارتفاع المستوى التعليمي لمعظمهن- من ظروف العمل الصعبة خاصّة التي تفاقمت خلال الوضع الراهن؛ إذ تعمل أغلبهن 4-8 ساعات يوميًا من دون عقود مكتوبة أو تأمين صحي، أمّا الإجازات السنوية والمرضية إجازات الأمومة وساعة الرضاعة شبه غائبة تمامًا.
تقول لمياء جمال: "عدت بعد أسبوع من الولادة، وتركت طفلي الذي وُلد بوزن أقلّ من الطبيعي لأنني ببساطة لا أستطيع فقدان عملي فزوجي خسِر عمله في مصنع أحذية تدمر نتيجة الظروف الراهنة".
قبل أسبوعين فقط كانت زميلتها رؤى كمال (29 عامًا) تنزح للمرة التي لم تعرف عددها من مكانها في الجلاء وسط قطاع غزة، ومع ذلك لم تستطيع التغيب عن العمل، تقول كمال: "قضيت الليل أحزم الأمتعة وصباحًا تركت كل شيء وذهبت إلى العمل ومنه عدت إلى مكان النزوح الجديد".
وسط هذه الظروف تقابل العاملات أوضاعهن بالعجز والصمت، فحسب الدراسة الصادرة عن "مرصد" الكثير منهن لم تنتسب للنقابات. تؤكد بيانات 2023 أنّ نسبة العضوية النقابية متدنية جدًا، ومعظم العاملات لا يلجأن إليها أو لوزارة العمل لحلّ نزاعاتهن.
المختصة النفسية الاجتماعية جيهان حلس تؤكد أن هذه الظروف الاستثنائية تضرب استقرار المربيات والأطفال معًا. وتقول: "المربية التي تعود إلى عملها بعد أيام من الولادة أو تضطر لمغادرة مكان نزوحها لتذهب إلى الروضة، تعيش ضغطًا نفسيًا مضاعفًا ينعكس على أدائها وقدرتها على رعاية الأطفال.
أما على صعيد الأطفال أنفسهم، فتشير حلس إلى أنّهم يكبرون في بيئة مشبعة بالقصف والتهجير والنزوح، حيث تغيب عنهم مقومات التعليم السليم ويعانون من عسر تعليمي واضح. معظم أفكارهم تدور حول أصوات الانفجارات، أو الخوف من فقدان البيت، أو انتظار دورهم الطويل للحصول على ماء أو طعام.
وتفيد أنّ هذه الضغوط اليومية تضعف تركيزهم وتفقدهم الإحساس بالطفولة الطبيعية، وتحوّل الروضة أو الخيمة التعليمية إلى مساحة محمّلة بالقلق أكثر مما هي فضاء للتعلم واللعب.
مع استمرار الحرب، تحوّلت عشرات رياض الأطفال التي نجت من القصف إلى ملاجئ مكتظة لإيواء جزء من نحو 1.9 مليون نازح في عموم محافظات قطاع غزة. في النصيرات وسط القطاع، وقفت مديرة روضة محترقة من غارة سابقة أمام جدارٍ أسود قائلة: "الجدار الذي كان مبتهجًا بألوان الفرح ورسومات الترحيب بالصغار، احترق. لم يعد المكان صالحًا للتعليم، لكننا مع ذلك لا نجد بديلًا".
لكن المأساة لا تتوقف عند حدود الدمار المادي، فالوضع الاقتصادي والمعيشي يضيف طبقة أخرى من القسوة على حياة مربيات رياض الأطفال. نصف رواتب بعضهن يضيع كعمولات بنكية بسبب إغلاق المصارف، فيما يفاقم غياب الوزارات حالة الاستغلال.
مديرة العلاقات العامة في وزارة العمل، منال الحتة، أقرت بأن الوزارة "لم تمارس أي دور منذ اندلاع الحرب"، بينما أوضحت المتحدثة باسم وزارة التنمية الاجتماعية، عزيزة الكحلوت، أن الوزارة "تعمل بخطة طوارئ تقتصر على متابعة الأيتام ومراكز الإيواء"؛ ما يشير إلى أن رياض الأطفال تُركت بلا أي غطاء رسمي، والقوانين عالقة بلا تطبيق.
القوانين نفسها تكاد تكون خارج الزمن؛ ففي غزة ما زال قانون المعارف لسنة 1933، الذي يعود إلى عهد الانتداب البريطاني، هو المرجع المعمول به. هذا القانون لم يذكر رياض الأطفال من الأساس، إذ كان يركّز فقط على المدارس الحكومية والخاصة والمناهج والامتحانات، ولم يتطرق إلى التعليم المبكر أو حقوق المربيات، ما يترك فراغًا تشريعيًا خطيرًا في ظل الظروف الراهنة. يقول المحامي يحيى محارب: "نعمل بقوانين عمرها قرن تقريبًا، بينما الأطفال فقدوا رياضهم ومدارسهم وحياتهم التعليمية بالكامل."
أما في الضفة الغربية، فكان يُطبّق قانون التربية والتعليم الأردني لسنة 1964 حتى صدور قانون التربية والتعليم الفلسطيني لعام 2017، الذي اعترف بمرحلة رياض الأطفال كجزء من المنظومة التعليمية ووضع لها أطرًا تنظيمية وحماية. غير أن الاستراتيجيات الوطنية لم تُفرد لغزة أي خصوصية، ما جعل رياض الأطفال هنا بلا تحديث تشريعي ولا حماية خاصة في زمن الحرب.
أما أجور المربيات، فتظل ملفًا مفتوحًا على الاستغلال. يوضح محارب أن "الحد الأدنى للأجور محدد بـ 1880 شيكل وفقًا لقرار مجلس الوزراء رقم 4 لسنة 2021 لكن تعطيله في غزة يضع العاملات في دائرة استغلال ممنهج، ويمثل انتهاكًا صارخًا لقانون العمل الفلسطيني".
في مشهدٍ تتقاطع فيه الحرب مع الغياب الحكومي والأزمات الاقتصادية، تبدو رياض الأطفال في غزة عالقة بين أنقاض الماضي وضباب الحاضر.
المربيات يعملن بلا حماية قانونية ولا أجور تكفل الحد الأدنى من الكرامة، والأطفال يتلقون تعليمهم الأولي في خيام وملاجئ محمّلة بالخوف والحرمان. وبين قانونٍ معطّل، واستراتيجيات وطنية لم تُفرد لغزة أي خصوصية، يظل التعليم المبكر بلا غطاء رسمي ولا رؤية مستقبلية.
وفيما يتحدث الخبراء عن جيل يتهدده العسر التعليمي والقلق النفسي، تبقى المربيات في الصفوف الأمامية يواجهن وحدهن أعباء الغياب الحكومي وضغط الحرب، في معركة لا تقلّ خطورة عن القصف ذاته: معركة الحفاظ على ما تبقى من الطفولة.