في غرفة عمليات صغيرة داخل مستشفى ميداني، تتداخل رائحة المطهرات مع رائحة الدم، ويتحوّل بكاء المواليد الجدد إلى صدى بعيد يختلط في أذن الطبيبة شادية أكرم (45 عامًا) بأصوات الانفجارات. وبينما تنشغل يداها بإنقاذ حياة طفل جديد، يسيطر على قلبها خوف لا يفارقها: هل ما زال طفلاها على قيد الحياة في الخيمة التي تركتهما فيها صباحًا؟
تقول أكرم، وهي تحاول أن تُبقي صوتها ثابتًا وسط الضجيج: "لا أملك رفاهية أن أقول لهما قد أراكما لاحقًا، لأنني قد لا أعود. في تلك اللحظة لا أشعر أنني طبيبة، بل أمّ عليها أن تعرف أن هذه قد تكون المرة الأخيرة التي ترى فيها أولادها".
أكثر من 20 حالة ولادة يوميًا تستقبلها الطبيبة أكرم، معظمها لنساء يأتين وجوههن شاحبة من الخوف وأجسادهن ترتجف من البرد، أمهات أُجبرتهن الحرب على المخاض داخل خيام لا تصلح للسكن.
وتروي حادثة علقت في ذاكرتها: "في إحدى الليالي، بينما كنت أجري عملية قيصرية لأم وصلت فجأة، اهتزت الأرض تحت أقدامنا بسبب قصف إسرائيلي قريب وانقطع التيار الكهربائي. أكملت عملي وقلبي يخفق خوفًا على أطفالي، بينما عليّ أن أنقذ حياة أم وطفل بين يدي."
حين وصلتها رسالة قصيرة من طفليها تؤكد أنهما بخير، كانت قد انتهت للتو من ولادة جديدة، تضيف: " بكيت مع الطفل المولود، وشعرت أن ذلك البكاء أعادني إلى الحياة من جديد".
وبين كل حالة وأخرى، لا تجد هذه الطبيبة إلا دقائق معدودة للاتصال بهما، تتابع: "أحاول الاتصال بهم دقائق قليلة فقط تكفي لأتأكد من أنهما بخير، وهذا ما يمنحني القوة للاستمرار في عملي".
بين دويّ الانفجارات وأنين المواليد، تعيش الطبيبات والأمهات العاملات في غزة أمومةً مثقلة بالتمزق؛ فبينما تنقذ أيديهن حياة نساء وأطفال داخل المستشفيات الميدانية التي تحولت إلى ملاذ أخير، يظلّ قلبهن معلّقًا بخيمة نزوح تضم أبناءهن. هناك، تتشابك رسالة المهنة مع نداء الأمومة، ليصبحن مانحات للحياة، وهن في الوقت ذاته يخشين فقدان أحبّ الحياة.
في الجهة الأخرى من غرفة الولادة، كانت الأم هدى جبر (27 عامًا) تعيش خوفًا مختلفًا، لكنه نابع من المصدر ذاته وهو الأمومة تحت الحرب. تقول: "أصعب ما واجهته لم يكن الألم الجسدي، بل الخوف من أن يولد طفلي في خيمة. كنت أضع يدي على بطني في كل مرة أسمع فيها صوت طائرة وأهمس: اصمد قليلاً، لا تخرج الآن. لم يكن الخوف عليّ، بل على حياة صغيري".
تضيف جبر: "عند بدء المخاض كنت أبحث عن أيادي طبية أثق بها، لكن عند كل نفس كنت آخذه كان يُرافقني سؤال: هل سينجو طفلي؟ هل سأتمكن من رؤيته يكبر؟".
وتردف: "عند لحظة ولادة طفلي كنت منهكة وخائفة، لكن عندما سمعت بكاءه شعرت أن كل خوف وكل ألم قد زال. وجود طاقم الولادة بجانبي كان يمدني بالقوة."
الممرضة ياسمين نسيم، التي تصف دورها بأنّه "العين الثانية" للأطباء، تقول: "أجهز الأدوات، أتابع المؤشرات الحيوية للأم، وأحاول تهدئتها وسط فوضى الانفجارات وانقطاع الكهرباء." وتشير إلى حساسية دور الممرضة الذي لا يتوقف عند المساندة التقنية فقط؛ بل يمتد ليشمل الدعم النفسي للأم التي تدخل غرفة الولادة مثقلة بالخوف والبرد.
وتوضح نسيم أنّ بعض الحالات تصلّ في وضع حرج جدًا بسبب تأخر وصولهن إلى المستشفى نتيجة ظروف القصف والأحداث الجارية، خصوصًا في ساعات المساء حين يكون التنقل أكثر خطورة. تضيف: "يصلن أحيانًا وهنّ على حافة فقدان الوعي أو في حالة نزيف شديد، ونكون أمام سباق مع الزمن لإنقاذ حياتين في آن واحد".
وتُشدّد نسيم على أنّ عملها كممرضة لا يحتمل أي هامش للخطأ، فكل قرار أو حركة قد تحدد مصير أم وطفلها. تقول: "أحيانًا تكون ثوانٍ معدودة هي الفاصل بين الحياة والموت." هذا العبء يجعلها مضطرة لمضاعفة يقظتها وتركيزها، رغم الإرهاق النفسي والجسدي وضغط الظروف المحيطة، لتظلّ حاضرة بكامل طاقتها في أكثر اللحظات هشاشة وخطورة.
الواقع الصحي للأمهات والأطفال في غزة مأساوي. نحو 50 ألف امرأة حامل في القطاع يلدن حوالي 180 طفلًا يوميًا تحت ظروف بالغة القسوة. أكثر من 10 آلاف حالة ولادة سنويًا تواجه مضاعفات تهدد الحياة بسبب انهيار النظام الصحي، حيث تعرض70% من المنشآت الصحية لأضرار جسيمة أو دمار كامل، ولم يعد يعمل سوى 12 مستشفى من أصل 36 بشكل جزئي، وفق تقارير منظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة للسكان.
تقول الخبيرة في قضايا صحة المرأة وحقوقها نسمة زين الدين: "الكثير من النساء الحوامل يواجهن مخاطر مزدوجة؛ منها صعوبة الوصول إلى الرعاية الطبية ونقص الأدوية الحيوية اللازمة. فالحمل في ظروف الحرب ليس فقط اختبارًا جسديًا، بل صراع نفسي مستمر".
وتضيف أنّ الولادة في مناطق النزاع تضع الأمهات تحت ضغط هائل قد يؤدي إلى فقدان الحياة بسبب النزيف أو الولادة المبكرة. وبعد الولادة يواجهن صعوبة في الوصول إلى متابعة الرعاية الصحية، ما يزيد خطر المضاعفات مثل الالتهابات أو النزيف المتأخر.
الدعم النفسي والاجتماعي والتثقيف الصحي أمور حيوية للغاية. الأخصائية النفسية هدى الشريف فتصف المعاناة المزدوجة للطبيبات الأمهات: "الطبيبة الأم تعيش صراعًا وجوديًا يوميًا بين واجبها المهني في إنقاذ الأرواح وغرائزها الأمومية في حماية أطفالها. كثيرات منهن يعملن لساعات طويلة بينما قلوبهن معلقة بأطفالهن في المنازل غير الآمنة".
وتضيف الشريف: "الضغط العصبي غير الطبيعي يؤثر على القرارات الطبية الحرجة. هذه المعاناة تعرضهن للقلق الحاد والأرق والشعور بالذنب؛ ذنب لترك أطفالهن، وذنب لعدم القدرة على تقديم رعاية كافية للمرضى بسبب نقص الإمكانيات".
في نهاية اليوم، تقف الطبيبة شادية أكرم أمام نافذة المستشفى الميداني وتنظر نحو خيمة نزوحها حيث ينام طفلاها. تقول وهي تحتضن الهواء كأنها تحاول أن تحميهما من بعيد: "كل طفل أمسكه بين يديّ هو نصر صغير على الموت".
ولكن مع كل ولادة، تتساءل هذه الطبيبة: "هل جلبنا طفلاً إلى عالم ينتظره الموت؟ أنا أمنح الحياة، لكني أتوسل إلى الحياة أن تحافظ على حياة أطفالي. هذه هي اللعنة والنعمة التي أعيشها كل يوم".
وفي غزة، تتجسد الأمومة على وجوه الطبيبات والأمهات معًا: رسالة مهنة تصارع الموت، ونداء أمومة يتشبث بالحياة.