من خيمة إلى فاتورة: مأساة النازحين مع تأجير الأراضي

من خيمة إلى فاتورة: مأساة النازحين مع تأجير الأراضي

تحت وقدة شمس مواصي خانيونس الحارقة جنوب قطاع غزة، وقف هشام عبد الهادي (45 عامًا) يرقّع خيمته بقطع قماش مهترئة، حين باغته رجل غاضب وهو يصرخ: "إما أن تدفع ثمن جلوسك في الأرض.. أو ترحل."

يمسح عبد الهادي، النازح إلى هذه المنطقة، حبات العرق المتساقطة من جبينه، ويشعر أنّ الأرض تهتز تحت قدميه. بعد جدالٍ عنيف تحت الشمس اللاهبة، وجد نفسه مجبرًا على دفع المال ليبقى في أرض لم يزرع فيها سوى الصبر.

يقول بصوتٍ متعب وهو يفرك عيناه الغائرتين: "انا مقيم في خيمة منصوبة في أرض على الشارع قرب أصداء خانيونس منذ حوالي خمسة أشهر. وجدتها فارغة فنصبت خيمتي مع عدد من النازحين مثلي، لكن بعد شهور جاء رجل يزعم أنها ملكه. لم يثبت كلامه لا أوراق ولا شهود، ومع ذلك أُجبرت بالقوة على دفع 500 شيكل شهريًا".

يتلّقى عبد الهادي راتبًا لا يتجاوز 1500 شيكل يعيل به أربعة أطفال، ولا يستطيع تحمل نفقات إضافية في ظلّ الغلاء المعيشي المتواصل في غزة. لكنّه اضطر لذلك لأنه لا مكان مجاني يتسع لخيمته سوى الأسفلت. يردف بنبرة يائسة: "أنام ليلًا من القلق. مجرد فكرة أن يأتي أحد ويطردنا من جديد تسرق نومي. أشعر أنني ضائع ولا أملك السيطرة على شيء."

ليس عبد الهادي وحده من يدور في فلك هذه المعاناة، فمئات الآلاف من النازحين وجدوا أنفسهم مضطرين لاستئجار مساحات صغيرة من الأراضي لإقامة خيامهم، بعضهم في أراضٍ خاصّة، وآخرون في أراضٍ حكومية يُفترض أن تكون متاحة للجميع، لكن بعضهم يُجبرون على دفع مبالغ باهظة مقابلها، والأشد قسوة أن كثيرين اضطروا إلى نصب خيامهم في أماكن خطرة لعدم وجود متسعٍ لهم.

في سبتمبر الماضي، أصدر الاحتلال الإسرائيلي أمرًا بإخلاء سكان مدينة غزة بالكامل، أي ما يزيد عن مليون إنسان، وحذرهم من البقاء فيها، وحثهم على التوجه جنوبًا؛ مما تسبب في أزمة إنسانية كبيرة، إذ لا يوجد سعة لهذا العدد المهول من النازحين في الجنوب.

الأرملة بسمة خليل (55 عامًا) فقدت زوجها وأصبح ابنها البالغ 18 عامًا هو المعيل الوحيد للأسرة المكونة من ستة أفراد. تنقلت بين محطات نزوح متكررة من معسكر جباليا شمال القطاع حتى وصلت إلى بلدة الزوايدة في المحافظة الوسطى، لكنها لم تجد أرضًا تنصب عليها خيمتها. لم يكن أمامها سوى دفع 550 شيكلًا مقابل قطعة أرض خاصّة، رغم أنها بالكادّ تستطيع توفير الطعام. 

اضطرت خليل لبيع خاتم زفافها لتؤمن تكاليف النقل والنزوح، والآن وجدت نفسها مضطرة لدفع إيجار مقابل مائة متر أرض بلا ماء ولا أي خدمات أساسية، تهمس: "الأرض مليئة بالحشرات، وحين ضاق الحال أكثر حاولت البحث عن شقة صغيرة، لكن الأسعار بدت جنونية".

تسند رأسها إلى كفها وتتنهد وهي تقول: "أشعر أننا عالقون. ابني يخرج للعمل مثقلًا بالضغط، وأنا أبقى منشغلة بخوف داخلي أن ينهار كل شيء فجأة."

نوران جهاد، أم لطفلين، يعيش زوجها مما يجنيه من البيع على بسطة صغيرة لمواد تنظيف في السوق. نزحت الأسرة إلى النصيرات وسط قطاع غزة، وأنفقت ما تبقى من مدّخراتها على أجرة المركبة التي نقلتهم من غزة نحو المحافظة الوسطى. 

تقول بصوتٍ مرتجف: "لم أتخيل يومًا أن يحصل ما يحصل بنا. أن تكون بلا بيت أمر صعب جدًا. بتنا يومين في العراء في منطقة النويري شمال النصيرات جالسين بجانب أغراضنا حتى وجدنا أرضًا إيجارها الشهري 400 شيكل. لم يكن أمامنا سوى القبول مجبرين".

هذا هو الشهر الثاني الذي تدفع فيه هذه العائلة الإيجار، فلا يتبقى معها للطعام إلا القليل. ومع اقتراب الشتاء، تحتاج خيمتها لصيانة حتى لا يغرقوا بالمطر، لكنها لا تملك ثمن النايلون الإضافي. تردف: "نبحث عن مخيم نضع فيه الخيمة يكون مجانيًا".

وتحاول نوران استغلال موهبتها في الطبخ لصنع معجنات وبيعها للنازحين لكنها مرهقة من الضغط النفسي الذي تعانيه. تقول: "أحيانًا أبكي وأنا أعجن العجين. هذا الخوف من المستقبل يقتلني أكثر من القصف".

تشغل الأراضي الزراعية في بلدة الزوايدة حيث تقطن هذه العائلة 40% من مساحة البلدة، ومع تدفق نحو مئة ألف نازح إليها وحدها بحسب الإحصاءات المحلية، أصبح الأمر أكثر تعقيدًا كون العدد يفوق قدرتها الاستيعابية. فلم يعد غريبًا أن ترى الخيام على جانبي الطريق، فيما ارتفعت أسعار الأراضي بشكل جنوني، إذ تراوح سعر متر الأرض ما بين 5 - 10 شواكل، وكذلك الحال في كل محافظات وسط وجنوب قطاع غزة.

بعض النازحين رأى في استئجار أرض فارغة عبئًا يفوق طاقته، خاصّة في ظلّ الأوضاع الكارثية التي يعيشها المجتمع الغزي، مع وصول نسب الفقر إلى 100%، وتجاوز معدلات البطالة 80%، وارتفاع أسعار السلع بنسبة تفوق 200%.

المختص النفسي عرفات حلس يصف الوضع النفسي للنازحين بأنّه "أصبح هشًا للغاية"، فمع كل عبء جديد لا سيما شراء خيمة، إيجار أرض، أو حتى كلفة ماء للشرب، يتضاعف الإحباط، إذ بات كل شيء يقاس بالمال. هذا الثقل الاقتصادي، كما يقول، يتحوّل إلى صدمة مستمرة وضغط نفسي مهول ينهش قدرتهم على التماسك.

النازحون، برأيه، يعيشون حالة تيه وضياع، يتنقلون بأجسادهم بين المخيمات لكنهم يفتقدون الأمان الداخلي. غياب الحاضنة الاجتماعية التي كانت يومًا ما السند الأقوى في غزة أفرز فتورًا في الروابط المجتمعية، وأضعف قيم التضامن التي لطالما ميزت المجتمع. 

يضيف حلس أنّ هذا الانزلاق نحو السلبية والاستغلال لا يزيد فقط من معاناة النازحين المادية، بل يضاعف جراحهم النفسية والجسدية. الحاجة اليوم، كما يشدد، أكبر ما تكون إلى دعم نفسي واجتماعي يرمم شعور الضياع، ويعيد للناس شيئًا من الثقة والطمأنينة وسط واقع يتآكل كل يوم.

من الناحية القانونية، فإنّ تأجير الأراضي الحكومية من قبل أفراد أو متنفذين يعد مخالفة صريحة للقانون في كل الظروف، استنادًا إلى البند (43) لعام 2021 الذي ينصّ على أنّ أي تصرف في هذه الأراضي لا يتم إلا بقرار من سلطة الأراضي. 

ويُعد أي تأجير خارج هذا الإطار تعديًا، إذ يُفترض أن يتم التوافق مع سلطة الأراضي والشرطة لإزالته ومحاسبة المخالفين؛ لكن على أرض الواقع، غياب الردع الشرطي في ظلّ توقف عملهم إثر استمرار الحرب الإسرائيلية يسمح للمخالفين بالتصرف بحرية.

المحامي يحيى محارب يوضح أنّ وضع اليد على الأراضي العامة، التي يُفترض أنها متاحة للجميع، يندرج في إطار النصب والاحتيال على الأسر النازحة. ومع غياب قوة قادرة على ردع هؤلاء المستغلين، يظلّ النازحون أسرى لضروراتهم اليومية، مضطرين لدفع أموال تفوق طاقتهم.

توجهت مراسلة "آخر قصة" إلى بلدية دير البلح وهي أكبر بلديات وسط قطاع غزة، ممثلة بمديرها محمد الأطرش، الذي أكّد أن تأجير الأراضي الحكومية ليس من مهام البلدية متابعته؛ لكنّه أقرّ بوجود فراغ واضح في المتابعة من قبل الأجهزة الحكومية المختصة، مبررًا ذلك بأنّ أي تدخل على أرض الواقع من قبل الفرق الشرطية يُقابل بالاستهداف من الاحتلال.

من جانبه، أكّد مفوض عام العشائر والقبائل في غزة، عاكف المصري، أنّ استغلال حاجة الناس وتأجيرهم الأراضي بأسعارٍ مرتفعة يُعد فعلًا مشينًا، وأنّ وضع اليد على أراض حكومية هو أحد الظواهر السلبية التي أفرزتها الحرب. 

وأشار المصري إلى أنّ العشائر تحاول قدر الإمكان الحدّ من هذه الممارسات بعقد جلسات من التوعية وحث المجتمع على التكافل في هذه الظروف الاستثنائية التي يعيشها سكان قطاع غزة.

وبينما يدفع الاحتلال الغزيين إلى النزوح القسري، يجد كثير منهم أنفسهم محاصرين أيضًا باستغلال الحاجة، ليتحول البحث عن مأوى إلى مأزق يضاعف من قسوة الحياة.