أطفال بلا أصوات: الحرب تفاقم الإعاقات السمعية

أطفال بلا أصوات: الحرب تفاقم الإعاقات السمعية

مصطفى أبو الحصين، طفل في الثامنة، يعيش في خيمة متردية الحال جنوب قطاع غزة، يجلس الصغير مع والدته ويرفع يديه في الهواء كأنّه يحاول الإمساك بصوتٍ ضائع، بينما يُطلق همهمة مبحوحة تتقطع بين الكلمات: "أريد أن أسمع صوتك كما كنت في الماضي".

تتردد العبارة أمام والدته التي تبتلع دموعها بصعوبة، بينما يشير ابنها مرارًا إلى أذنه الصغيرة يسأل عن سماعته التي فُقدت مع الانفجار الذي قتل والده وأطفأ ما تبقى من قدراته السمعية.

قبل نشوب النزاع، كان مصطفى يخضع لجلسات نطق منتظمة ويضع سماعة ساعدته على نطق كلماته الأولى. اليوم تغيّر كل شيء؛ أصبح عدوانيًا، يثور كلما تحدث أشقاؤه أو لعبوا معًا، ثم يركض نحو أمه ويشد ثوبها بعصبية مشيرًا إلى أذنه.

تقول الأم وهي تمسح على رأس الصغير: "كان يتحسن يومًا بعد يوم، كنت أسمعه يحاول أن يشكل جملًا قصيرة، وكان يضحك أحيانًا عندما ينجح؛ لكن الانفجار حرمه السمع نهائيًا، وتركه في عزلة لا يستطيع كسرها، ولا يوجد أي وسيلة لإخراجه من هذا الصمت".

مصطفى ليس وحيدًا. الآلاف في غزة يشاركونه المصير ذاته. الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ نحو عامين خلّفت 37 ألف حالة إعاقة جديدة، رفعت العدد الكلي إلى 148 ألفًا، أي ما يقارب 6% من سكان غزة الذين يتجاوز عددهم 2.3 مليون نسمة، من بينهم نحو 35 ألف شخص يعانون من فقدان السمع بشكل مؤقت أو دائم بسبب الانفجارات العنيفة.

تُعرَّف الإعاقة السمعية بأنّها فقدان كلي أو جزئي للقدرة على السمع، وقد تكون ناتجة عن أسباب مرضية أو عن التعرُّض المباشر لأصوات انفجاراتٍ قوية. 

وتترك تلك الانفجارات أثرًا جسيمًا، لاسيما تمزق طبلة الأذن، تلف في خلايا القوقعة، تدمير العصب السمعي. كما أنّ هناك تصنيفات عدة، من ضعف السمع الجزئي الذي يمكن تحسينه عبر سماعات طبّية، إلى الصمم الشديد الذي يفرض الاعتماد على لغة الإشارة وحدها.

في حي النصر غرب مدينة غزة، انهار بيت عائلة عبد الرحمن تحت وطأة انفجار صاروخٍ قريب. أُخرج أدهم، ذو الأحد عشر عامًا، من تحت الركام مصابًا في رأسه وقدمه. 

تروي والدته: "ناديت عليه ولم يجب. تلك اللحظة كسرتني. بعدها فقط اكتشفت أنه فقد السمع شبه كلي. نصحوني أن أجد له سماعة، لكن لا يوجد معينات سمعية في غزة، وهو ما ترك أثرًا قاسيًا في نفسي ونفسيته".

منذ ذلك اليوم، أصبح الطفل أدهم أكثر توترًا، يضرب رأسه بالجدار كلما شاهد الأطفال يركضون من هول انفجار جديد. لا يسمع شيئًا سوى صمتٍ ثقيل، يرى الدخان ولا يعرف ما يحدث حوله، فينزوي في ركن الخيمة يبكي حتى يغفو.

تكشف هذه القصص الفردية حجم أزمة جماعية. فادي عابد، مدير جمعية أطفالنا للصم، يقول إنّ معدل الإصابات بفقدان السمع تضاعف بشكلٍ لافت منذ بداية النزاع، ويستند إلى مسح ميداني على عينات عشوائية أظهر أن 35 ألف شخص فقدوا سمعهم بشكل مؤقت أو دائم. 

ويؤكد عابد أنّ الكثير من تلك الحالات فقدوا سماعاتهم بسبب النزوح المستمر أو تلف بطاريات السماعات الخاصة بهم أو غياب أدوات الصيانة، منبهًا أن شُح المستلزمات الطبية التي يمنع الاحتلال إدخالها بإغلاقه للمعابر يضاعف من الأزمة. 

ويشير إلى أنّ جمعية "أطفالنا للصم" حاولت منذ الأشهر الأولى للأحداث الجارية أن تقدم استجابة طارئة للأطفال، تضمنت طرود غذائية وملابس، فحوص طبية، دعم نفسي؛ لكنها وجدت نفسها أمام أعداد هائلة وظروف قاسية.

قبل اندلاع الحرب، كانت الجمعية تُقدِّم خدماتها لنحو 40 ألف شخص وتوفر فرص عمل لذوي الإعاقة السمعية. أما في الفترة الحالية، فهي تحاول إعادة استيعابهم عبر مبادرات مثل المطبخ المجتمعي الذي يوزع وجبات يومية لأربعين ألف أسرة.

وأمام استفسارات أسر الحالات عن دور المؤسسات، ومسؤوليتهم تجاه أطفالهم الصم لإجراء الفحوص الدقيقة وعن أجهزة السمع الغائبة، تقرّ جمعية أطفالنا للصم بأن الأعداد المهولة والنزوح المتكرر يقفان عائقًا أمام تقديم الخدمة للجميع، وأن خدماتها، رغم استمرارها، لا تواكب حجم الحاجة.

أما على مستوى المؤسسات الدولية العاملة في قطاع غزة، يوضح فراس الرملاوي، مدير مكتب هيئة خدمات الأصدقاء الأمريكية (AFSC)، أنّ منظمته تُولي اهتمامًا خاصًا بالفئات المهمشة، ومن ضمنهم ذوو الإعاقة.

يقول الرملاوي إنهم تواصلوا مع جمعية أطفالنا للصم وقدّموا مستلزمات أساسية للأطفال، بما في ذلك الحفاضات، ويعملون على متابعة احتياجات المؤسسات للتعرف عليها وتوفير الدعم حين يتوفر؛ لكن هذه المساعدات والجهود، مهما بلغت، تظل جزئية أمام مأساة بهذا الحجم.

بدورها اقتصرت جهود وزارة التنمية الاجتماعية على التنسيق مع المؤسسات العاملة في هذا الإطار، يقول غسان فلفل، مدير دائرة تأهيل ذوي الإعاقة: "نحاول الفترة القادمة التنسيق مع جمعية أطفالنا للصم لتوفير معينات سمعية، وما زالت فرقنا تعمل في الميدان لعمل مسوح ميدانية لذوي الإعاقة السمعية إذ سيتم تحويلهم للمؤسسات لإجراء الفحوصات".

ويضيف فلفل أن ذوي الإعاقة السمعية مدرجون على قوائم الأولوية لتلقي طرود غذائية أو مساعدات نقدية؛ غير أنّه أوضح أن هناك عشرة آلاف حالة مسجلة قبل الحرب، لكن العدد ارتفع الآن إلى أكثر من أربعين ألفًا؛ الأمر الذي تطلّب ضرورة أن تطلق الوزارة رابطًا إلكترونيًا جديدًا لحصر ذوي الإعاقة والتعرف على احتياجاتهم.

وسط هذه المعاناة والجهود الضئيلة، يحذر الأطباء من تعقيدات إضافية. فادي الهاليس، مختص في السمعيات، يقول إن التحدّيات التي تواجههم كثيرة وصعبة للغاية. الإصابات السمعية غالبًا ما تترافق مع إعاقات أخرى مثل البتر أو فقدان البصر، ولا تتوفر مستلزمات ولا فحوصات يمكن الاعتماد عليها. حتى مواليد الحرب لا يخضعون للفحوص التقليدية، ما يعني أن حالات فقدان السمع قد تظلّ غير مُكتَشفة. 

ويوضح الهاليس أنّ فقد السمع درجات: بسيط يعني صعوبة في سماع الأصوات المنخفضة، متوسط أي صعوبة في السمع دون سماعة، ثم عميق حيث ينقطع السمع كليًا. ويؤكد أن الفقد البسيط قد يتطور إلى فقد كامل مع مرور الوقت إذا لم يتلقَ المصاب العلاج المطلوب.

هذه الشهادات الطبيّة لا تكشف فقط حجم الكارثة الصحيّة، بل تفتح الباب إلى البُعد الحقوقي. فوفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي صادقت عليها فلسطين، فإنّ على الدول الأطراف ضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة في أوقات النزاع. 

ويُشكِّل التعدي على ذوي الإعاقة انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني الذي يكفل حمايتهم. لكن على أرض غزة، يعيش أطفال مثل مصطفى وأدهم في صمتٍ قسري بلا أجهزة سمعية ولا خطط طوارئ واضحة. 

وبينما ترتفع الأرقام وتتضاعف القصص التي لا تجد من يسمعها، يبقى السؤال معلقًا: كيف يمكن حماية ذوي الإعاقة السمعية في قطاع محاصر تُقيد فيه إدخالات المساعدات والمستلزمات؟ وأي مسؤولية مشتركة يجب أن تتحملها الجهات المسؤولة في إيجاد آليات لضمان حق هؤلاء الأطفال في العلاج والحماية؟