ترتفع ضحكات أطفال يتعلمون رمي الكرات في الهواء، قبل أن يمزقها دويّ انفجار قريب. تتساقط الكرات المليئة بالرمال وتتعثر الحلقات تحت الأقدام الصغيرة، فيندفع الصغار مذعورين بين الخيام في مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة. وسط هذا المشهد المتناقض، تقف شهد حمدونة (20 عامًا) تحاول إعادة الفوضى إلى لعب، مستندة إلى ما بقي لديها من فنون السيرك لتصنع للأطفال فسحة أمل في قلب الحرب.
كان سيرك غزة طوق النجاة لحمدونة منذ نزوحها من بيت لاهيا شمال القطاع إلى خانيونس جنوبًا، في الشهر الأول من الحرب الدائرة منذ عامين. وبعد انقطاعها ثلاث سنوات عن التدريبات، وجدَت نفسها تعود إلى ما كانت تحفظه من حركات السيرك الفنّية التي تعلمتها وهي في المرحلة الإعدادية ولم تتردد لحظة حتى صار الفنّ الذي أحبته متنفسًا لها ولغيرها وسط الخيام.
سيرك غزة الذي تنضمّ إليه حمدونة هو مجموعة فنّية تعمل على نشر ثقافة السيرك بكل أشكاله، يضمّ غيرها عددًا من البهلوانيين والناشطين والمدربين الفنيين، ويقيم ورش عمل لتعليم الأطفال المهارات وتقديم فقرات بهلوانية في مراكز الإيواء.
الهدف من السيرك ليس الترفيه وحده، بل التفريغ العاطفي ومواجهة الصدمات النفسية عبر التدريبات الفنّية، وبث الفرح بين الأطفال للتخفيف من التوتر النفسي باللعب. لكن الفريق يواجه تحدّيات قاسية، ومنها صعوبة الحركة بسبب القصف، نقص المستلزمات، تشتت الأعضاء نتيجة النزوح، وانقطاع التواصل مع المجموعات التدريبية. أما الأماكن، فلا وجود لها سوى بين الخيام أو في مراكز الإيواء المؤقتة.
تخرج حمدونة من خيمتها متجهة نحو الأطفال، فتجد في العمل الفني علاجًا لها كما هو لهم. فقد أُحبطت أحلامها الدراسية أكثر من مرة؛ إذ خسرت فرصة قبول جامعي في الجزائر بسبب إغلاق معبر رفح البري، ثم مُنعت من السفر إلى موريتانيا رغم حصولها على منحة أخرى، فانتهى بها الأمر إلى الدراسة في جامعة القدس المفتوحة بغزة.
ومع ذلك لم تفقد شغفها، تقول وهي تلعب بكرة ملونة: "كانت من أجمل أيام حياتي، لكني انقطعت بسبب الدراسة في الثانوية. في الحرب رأيت كابتن كان يدربني، وأخبرني أن سيرك غزة فعال، وعرض عليّ العمل معهم كمساعد مدرب للأطفال فقبلت فورًا".
تتقن ألعاب السيرك باستخدام أدوات بسيطة، منها حلقات "الهولا هوب" التي تدور حول الخصر أو الذراع أو القدم لتدريب التوازن، أداة "الديابولو" التي تشبه البكرة وتتحرك على خيط بين عصاين قصيرتين، إضافة إلى الكرات والحلقات المستخدمة في التناسق البصري، والحركات البهلوانية والهرم البشري.
لكن الواقع جرّاء النزاع فرض بدائل محلية، فكانت البدائل مثلاً كرات من جوارب محشوة بالرمال، حلقات مصنوعة من خراطيم بلاستيكية، وحبال عادية بدل الأدوات الاحترافية.
تقول حمدونة وهي تدور بين الحلقات الملونة: "نواجه صعوبة في توفير المستلزمات، ولكننا نعتمد على البدائل. فبدل الكرة نستخدم الجوارب المغمورة بالرمال، وأحيانًا يساعدنا أصدقاء أجانب بإدخال أدوات السيرك في حقائبهم الشخصية دعمًا للأطفال".
الأطفال بدورهم ابتكروا أدواتهم الخاصة. مصطفى (9 سنوات)، مثلًا، صنع كرة من الجوارب المعبأة بالرمال وأتقن الحركات من الجلسة الثانية. الطفلة ميس (8 سنوات) جمعت كرات فارغة وجلست على الرمال تملؤها حتى ثقل وزنها، فصارت أداة للتدريب. وبمرور الوقت، توطدت علاقة حمدونة مع طلابها حتى صاروا يركضون إليها عند رؤيتها في الشارع ليسألوها عن موعد التدريب القادم والحركات الجديدة.
الأطفال في غزة يعانون من صدمات متكررة. أكثر من 650 ألف طالب باتوا بلا تعليم، وتوقف أكثر من 90% من المدارس عن العمل. بجهود مبادرين، افتُتح نحو 600 مركز تعليمي مؤقت يخدم 173 ألف طالب، لكن نصفها أُغلق إثر عودة الحرب أدراجها في مارس الماضي بعد وقف إطلاق نار مؤقت.
إلى جانب ذلك، أظهرت دراسة أجريت على خمسة آلاف طفل في غزة أن 55% منهم يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، وأن التعرض المستمر لأصوات القصف والأخبار الصادمة جعل سلوكيات العنف والقلق والتبول اللاإرادي ونوبات الهلع أكثر شيوعًا.
ورغم أن حمدونة هي المدربة الوحيدة في السيرك بقطاع غزة، فإنّ الإقبال على تعلّم ألعاب السيرك ارتفع بازدياد أعداد الطلبة المسجلين لديها، خصوصًا بين الفتيات في عمر 9 إلى 14 عامًا؛ ما ساعد على نشر ثقافة السيرك المجتمعي أو "سيرك الشارع"، وبالتوازي مع ذلك، قدمت بالشراكة مع مختصين ورش دعم نفسي من خلال الفنون للتخفيف من نوبات الخوف التي يعيشها الأطفال.
سيرك غزة لا يعمل وحده؛ بل يتعاون مع مدرسة سيرك فلسطين، مؤسسة "تشوسو" الإيطالية، ومؤسسة "بمبا". ومع ذلك، ما زالت صعوبات إدخال المعدات تقف عقبة أمامهم تقدمهم وانتشارهم.
بالنسبة لحمدونة، كان السيرك علاجًا شخصيًا أيضًا. تقول: "في كل مرة أرى ضحكة طفل، أستعيد جزءًا من نفسي". هي اليوم تحلم أن تستمر في عملها لدعم الأطفال نفسيًا، وتطوير قدراتها في ألعاب الخفة، وأن تعود يومًا إلى العروض الكبيرة دون أن يخشى أحد دوي انفجار قد يقطع المشهد في منتصف العرض.