مرضى الربو: أنفاس معلّقة بين فكي القصف والتلوث

مرضى الربو: أنفاس معلّقة بين فكي القصف والتلوث
مرضى الربو: أنفاس معلّقة بين فكي القصف والتلوث

حين دوى الانفجار على مقربة من منزلها غرب مدينة غزة، ارتجّ صدر منال ناجي (38 عامًا) كما لو أنّ قيدًا حديديًا شدّ رئتيها. تسلّلت رائحة البارود الكثيفة إلى الخيمة، وأطلقت في جسدها نوبة ربو جديدة. كانت يداها تبحثان بيأسٍ في الحقيبة عن البخاخ الصغير، تحاول أن تسبق الاختناق.

منال التي أُصيبت بالربو منذ الطفولة كانت حالتها مستقرة، تأخذ علاجها بانتظام. لكن الحرب على غزة قلبت المعادلة؛ مزيج من غبار الانفجارات، ورائحة احتراق الحطب والبلاستيك والنفايات، ومع موجات الحرّ، صار ينهك جهازها التنفسي.

بصوتٍ يقطعه صفير الشهيق قالت: "وفرت عبوة البخاخ بأعجوبة، وأحاول التوفير في استخدامها لكي تبقى معي خوفًا من الاختناق. عندما تأتيني النوبة أشعر بسعالٍ لا يهدأ وضيق تنفس شديد".

بين الدخان والبخاخ

يعيش في قطاع غزة أكثر من 45 ألف مصاب بالربو، ومع الحرب تضاعفت معدلات الإصابة بالالتهابات التنفسية، في ظلّ تلوث هواء خانق وانهيار للنظام الصحي.

في بيتٍ آخر وسط قطاع غزة، كان أحمد عبد الرحمن (27 عامًا) يشعل نيران الحطب يوميًا للطبخ بعد منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال غاز الطهي لسكان القطاع كواحدة من تدّاعيات استمرار النزاع منذ أكتوبر 2023.

ومنذ ذلك الوقت بدأت رئتا عبد الرحمن تضعف، وصارت نوبات السعال الشديد وضيق التنفس ترافقه مع ارتفاع درجات الحرارة. توقفت بخاخته الطبية عن العمل منذ أشهر مع انقطاعها من صيدليات غزة.

يقول بصوتٍ متحشرج: "آخر مرة ذهبت للمشفى إثر نوبة ربو أعطوني تبخيرة سريعة فتشعرت بالتحسن. لكن منذ الحرب ضعفت مناعتي بشدة، وأصبت بأمراض متلاحقة، غير أن الربو كان الأشد."

الطبيب أحمد الربيعي، المتخصص في الأمراض الصدرية، يشرح أن الربو – وهو التهاب مزمن في الشعب الهوائية يؤدي إلى السعال والأزيز وضيق التنفس والصدر – صار أكثر خطورة في غزة.

يقول الربيعي: "في ظلّ الأوضاع البيئية والصحية الصعبة التي يعيشها قطاع غزة، ومع ارتفاع درجات الحرارة، وإشعال النيران، والغبار، والبارود، يعاني مرضى الربو من زيادة حدة الانتكاسات".

تتسبب إصابة الجسم بالالتهابات المستمرة في إضعاف مناعة الرئتين، وقد تتحوّل بعض الحالات إلى أمراض أخطر تصلّ لسرطان الرئة، وفقًا للربيعي الذي أشار إلى أنّ أكثر الفئات عرضة هم كبار السن والأطفال.

ويحذر طبيب الأمراض الصدرية من ذهاب بعض المرضى لخيار تقنين العلاج: "استخدام نصف جرعة فقط محاولة لتوفير الدواء بسبب ندرته وغلائه يُسبِب ضررًا ويفاقم الأعراض".

ويؤكد أن نسب الإصابة بالربو والحساسية ارتفعت بنسبة 40% خلال الحرب، وأنّ التغيرات المفاجئة في الطقس من حرّ لبرودة تؤدي إلى نوبات يصعب السيطرة عليها.

طهي سام

على موقدٍ آخر أمام خيمةٍ جنوب قطاع غزة، تجلس ابتسام علي (62 عامًا) قرب النار. منذ أشهر توقفت عن استخدام بخاخها بعد أن انقطع من الصيدليات إثر منع دخول الأدوية.

تحمل العبوة الفارغة وتستعد لإلقائها في النار، وتقول: "دائمًا أمرض بالأنفلونزا إثر التنقل بين الهواء الساخن والبارد. وكلما جلست على النار للطبخ تزيد حالتي سوءًا. أكثر من مرة ذهبت للمشفى لتلقي تبخيرة طبية بعد نوبات ضيق تنفس."

في خيمة أخرى جنوب القطاع، تدير أم محمد المصري فرنا بدائيًا وقوده البلاستيك والكرتون. جهاز الاستنشاق لا يفارق يدها، وتقول: "سأموت بدون جهاز الاستنشاق. عندما أصاب بالاختناق، يصرخ أبنائي ويسرعون بي إلى المستشفى". وتضيف أن استخدامها للبخاخ تضاعف عدة مرات بسبب الأبخرة والدخان الذي يملأ خيمتها، لكنها مضطرة للعمل من أجل إعالة أسرتها.

وتشاركها المعاناة عائشة الراعي، الحامل في شهرها الثامن، فتجلس ساعات طويلة أمام الفرن الطيني وهي تستنشق الدخان يوميًا لتأمين طعام أولادها. تقول والدموع في عينيها: "أنا حامل وأقضي اليوم كله جالسة أمام النار والدخان، ليس لدينا خيار آخر".

المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، الدكتور خليل الدقران، يحذر من أن الأفران الطينية التي تعتمد على البلاستيك تسببت بانتشار أمراض تنفسية خطيرة مثل الالتهاب الرئوي والربو. ويؤكد أن المستشفيات عاجزة عن الاستجابة بسبب نقص الأدوية والمستلزمات الطبية، داعيًا إلى تدخل دولي عاجل لإدخال الوقود والأدوية.

تلوث يلتهم البيئة

لكن الخطر لا يقف عند حدود المرضى. فالمُلوثات الناتجة عن الغبار والبارود والدخان ورائحة البلاستيك المحترق تمتد لتخنق البيئة كلها. تشير دراسات بيئية إلى أن الحرائق الناجمة عن الانفجارات في قطاع غزة، الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترًا مربعًا، تطلق كميات هائلة من الغازات السامة مثل أكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكربون، مما يسهم في ارتفاع درجات الحرارة.

وفي تقرير صحفي، قُدرت كمية المتفجرات التي أُلقيت على غزة خلال عام واحد بنحو 75 ألف طن، وهو رقم وصفه مختصون بأنّه "صادم" إذ يكشف حجم الانبعاثات السامة التي تراكمت في سماء القطاع، وضاعفت أثر التلوث على السكان والبيئة. هذه الكمية وحدها تعادل الانبعاثات السنوية لدول صغيرة بأكملها.

وبحسب دراسة نشرتها صحيفة "الغارديان" البريطانية، فإنّ نحو 99% من 1.89 مليون طن مكافئ ثاني أكسيد الكربون أُنتج خلال عام ونصف من الحرب، نتيجة الانبعاثات جراء القصف. كما أدّى الاعتماد على المولدات العاملة بالسولار إلى انبعاث أكثر من 130,000 طن من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، أي ما معدله 7% من إجمالي الانبعاثات المرتبطة بالحرب، وهو رقم يوازي ما تطلقه مدينة عالمية في عام كامل.

المختص البيئي نزار الوحيدي يربط بين هذه الانبعاثات والتدهور البيئي المركب، ويقول: "الملوثات التي أفرزتها الحرب رفعت درجات الحرارة وساهمت في الانحباس الحراري وتغير المناخ، خصوصًا بعد تدمير الغطاء النباتي الذي كان ينقّي الهواء ويطلق الأكسجين".

بيئة تختنق

إلى جانب ذلك، أدّى تراكم الركام ومخلفات الحرب وكذلك مكبات النفايات العشوائية إلى تفاعلات وحرائق أطلقت غازات كثيفة، وكل ذلك ساهم في أزمة بيئية وصحية وزراعية مركبة.

ويوضح الوحيدي أنّ تدمير الغطاء النباتي لا يعني فقدان الأشجار فقط، بل فقدان خط الدفاع الطبيعي ضدّ التلوث، فالأشجار التي كانت تمتص ثاني أكسيد الكربون وتحسّن جودة الهواء لم تعد موجودة، ما جعل الغازات السامة تتراكم بلا عائق.

كما أنّ تكدّس النفايات العشوائية في المخيمات المزدحمة، تتولد تفاعلات بيولوجية تؤدي إلى اشتعال حرائق بطيئة، تفرز بدورها مركّبات سامة مثل الديوكسينات التي تبقى في الجو والتربة لفترات طويلة، وتزيد من احتمالات الإصابة بأمراض خطيرة.

يضيف الوحيدي: "شهدت غزة خلال الحرب انحباسًا حراريًا قويًا نتيجة الاستهلاك المفرط للموارد. هذه الضربة للمنظومة البيئية ستعمّق التصحر والانحباس الحراري خلال السنوات القادمة."

ويشير إلى أنّ الأزمة لا تقتصر على المناخ، بل تمتد إلى الأراضي الزراعية التي تضررت بفعل الانبعاثات والحرائق، ما يهدد بفقدان التربة لخصوبتها وارتفاع ملوحتها نتيجة غياب الغطاء النباتي الواقي. كما أن موجات الحرّ المصحوبة بتلوث الهواء تجعل المحاصيل أكثر عرضة للجفاف والمرض، ما يعمّق شبح انعدام الأمن الغذائي.

في غزة، ينهار الجسد كما تنهار البيئة. بين بخاخ يبحث عنه مرضى الربو في حقائبهم وسماء مثقلة بالبارود والدخان، وبين أفران طينية تنفث البلاستيك المحترق في صدور النازحين، تتشابك الأزمة الصحية مع الكارثة البيئية. كل نفس في غزة بات مشبعًا بمناخ الحرب. هنا، لا يختنق البشر وحدهم، بل تختنق التربة والهواء والمستقبل كله، حيث صار التنفس فعل مقاومة، والمناخ ساحة أخرى للحرب.