بعد رحلة نزوح مضنية انتقلت فيها مادلين رائد (38 عامًا) من بيتها المتضرر جزئيًا بفعل قصف إسرائيلي إلى خيمة جنوب قطاع غزة، جلست تتفحص صندوقًا بلاستيكيًا صغيرًا تحتفظ فيه ببعض مفاتيح بدأ الصدأ يتسلل إليها وتذكارات من هدايا مناسباتٍ سابقة، وألبوم صور قديم لأسرتها.
قالت وهي تشير إلى المفاتيح كما لو كانت تحمل وطناً بأكمله: "هذا كل ما تبقّى من بيتنا". بيتها في حي الشجاعية شرق مدينة غزة دُمّر منذ أشهر، لكن صورة الأبواب والنوافذ، ورائحة الخبز التي كانت تعبّئ المطبخ كل صباح، لا تزال تعيش داخلها.
النزوح الداخلي في غزة لم يعد حدثًا عابرًا؛ إنه حالة مستمرة منذ نحو عامين بفعل استمرار الحرب الإسرائيلية على القطاع. وبحسب الأمم المتحدة، يعيش أكثر من 1.9 مليون فلسطيني في غزة في نزوحٍ قسري متكرر، يتنقلون من حي إلى آخر، من مدرسة إلى خيمة، ومن بيت مستأجر إلى أطلال بلا سقف.
أعاد هذا التنقّل تشكيل علاقة الناس بمفهوم "المنزل"، فالبيت لم يعد جدرانًا وأثاثًا؛ بل فكرة عن الأمان والاستقرار. بعض النازحين يعتبر الخيمة منزلاً لأنها تؤويهم رغم أنّها لا تحمي من الحرّ أو البرد، بينما يرى آخرون أنّ البيت الحقيقي هو ما حُرموا منه: مفاتيح معلقة على صدر، أو صورة عائلية مطموسة تحت الركام.
قصص النزوح تتكرر لكن تفاصيلها تختلف. الخمسيني أبو خالد، الذي نزح تسع مرات خلال عامين، قال إنّه في كل مرة يختار أن يحمل هويته الشخصية وأوراق ثبوتية فقط، "أشياء صغيرة تحفظ وجودنا القانوني". فيما حملت آلاء حقيبة احتفظت فيها بألبوم صور زفافها. تقول: "الأثاث يُعوض، لكن الذكريات لا".
سماح شمالي (33 عامًا)، التي غادرت منزلها في السابع من أكتوبر، تروي: "غادرت بيتي صباحًا وأنا أظن أنني سأعود بعد أيام قليلة. أخذت أوراقي الرسمية وسلسلة فضية من صديقتي الراحلة، وتركت كل شيء على أمل العودة. لكن النزوح طال، ومعه فقدت مكاني ومكانتي؛ من سيدة البيت وربته إلى نازحة تجاري الظروف".
تتابع: "البيت كان مرآتي وطمأنينة روحي. كل زاوية فيه تحمل رائحتي وذكرياتي: نباتاتي على النوافذ، هدايا الأصدقاء، براويز الصور، والكتب التي ملأت أركانه. غيابه بتر جزءًا من نفسي".
ومع ذلك تبقى قناعة شمالي الراسخة: "قد تطول الغربة، لكن لا بد من عودة، فنحن أصحاب هذه البيوت، حجارتها وأسقفها قائمة على أعمارنا وعرقنا".
أما نجلاء السكافي (32 عامًا)، فقدَت بيت عائلتها الذي عاش أربعين عامًا، تروي التجربة بلغةٍ أقرب إلى الرثاء: "في البداية صُدمت، لم أفهم ما يعني أن يختفي البيت فجأة. هذه المرة الأولى التي أختبر فيها معنى خسارة البيت بلا رجعة".
بالنسبة لها، لم يكن البيت حجرًا فقط، بل تاريخًا ممتدًا لأجيال، تصف المشهد تشعر وكأنّها اقتُلعت من جذورها: "خُيّل إليّ أنهم لم يهدموا البيت فقط، بل اقتلعوه من الأرض وحملوه بعيدًا. كل شيء انهار فجأة، كأنّ سنوات العمر كلها انطوت كومة صور أمامي".
غير أنّ الأمل يظلّ حاضرًا في حديثها، حتى وإن كان مشوبًا بالخذلان: "كنت أمني النفس بعودة آمنة، لكنهم لم يسمحوا لي أن أهنأ بضعة أسابيع فيه. اليوم أسأل نفسي: أي عودة؟ وأي بيت؟".
الحياة في أماكن النزوح ليست مجرد فقدان للبيت، بل اختبار يومي للبقاء. مساحة الخيمة أو الصف في المدرسة لا تكفي لأسرة كاملة، وغياب الخصوصية يولّد توترًا متواصلاً. التعليم للأطفال متقطع، وغالبًا غائب كليًا، بينما تكادّ الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والصرف الصحي تكون معدومة تمامًا.
يصف محمد توفيق (28 عامًا)، الذي نزح عشرات المرات منذ بداية النزاع، الوضع قائلاً: "الخيمة لن تكون يومًا بيتًا، لا أستطيع التأقلم مع العيش فيها مطلقًا، أشعر أنني أعيش على حقيبتي، لا أنتمي إلى المكان ولا أستطيع التخطيط ليوم الغد".
بينما يعيش كثيرون حالة انتظار العودة، يحاول آخرون التكيّف مع واقع النزوح. بعض الأسر يرسمون رسومات على شوادر الخيام لتخفيف شعور الأطفال بالاغتراب.
آخرون ينظمون حياتهم بشكل يومي، في محاولة لبناء روتين يخلق نوعًا من الاستقرار المؤقت. لكن معظم النازحين يقرّون أنّ العودة تبدو حلمًا بعيدًا، وأنّ أقصى ما يستطيعون فعله هو الحفاظ على تماسكهم الأسري وسط انعدّام الأفق.
مختصون في علم الاجتماع يرون أن النزوح الداخلي يخلق شعورًا بالاغتراب حتى من دون مغادرة الوطن. عرفات حلس، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الأقصى، يقول إن الفلسطينيين النازحين يعيشون "غربة داخلية"، حيث يتنقلوا إلى بيئة جديدة ونمط معيشي مزري وغريب. "هذا الانفصال يولّد أزمة هوية: أين تنتمي حين تُقتلع مرارًا من جذورك؟".
العيش في مساكنٍ مؤقتة سواء أكانت خيام أو مدارس أو بيوت مستأجرة يفرض أنماطًا جديدة من التكيّف. في خيمة عائلية أقيمت في مواصي رفح جنوب القطاع، أعادت عائلة أبو العبد ترتيب حياتها: قسموا الخيمة بفواصل وهمية إلى زوايا خاصة للنوم والطعام، وحاولوا خلق "أجواء بيتية" عبر تعليق ستارة قديمة. قال الرجل: "لا خيار آخر، نريد أن نشعر أننا في بيت ولو كان من قماش".
الأطفال هم الأكثر تأثرًا. تقرير لمنظمة "أنقذوا الأطفال" أشار إلى أن النزوح المتكرر يضاعف من معدلات القلق والاكتئاب بينهم. إحدى الأمهات قالت: "ابني يسألني كل ليلة: هل سننام هنا غداً؟". هذا السؤال البسيط يلخص غياب اليقين الذي صار جزءاً من حياتهم. والعلاقات الاجتماعية أيضاً تتغير؛ فالجيران الجدد ليسوا بالضرورة أهل ثقة أو دعم، والمجتمع المحلي يواجه ضغطاً من تزايد أعداد النازحين على الخدمات المحدودة.
رغم الألم، يبقى الأمل بالعودة فكرة حاضرة في أحاديث النازحين. "سنعود مهما طال الزمن"، تقول باسمة سعيد (56 عامًا) وهي تطوي غطاء مطرز كان يُزين طاولة في بهو منزلها. لكن آخرين بدأوا يتحدثون عن الاستقرار في أماكن النزوح الجديدة: ترتيب تعليم الأطفال، البحث عن عمل، ومحاولة بناء حياة طبيعية وسط الخراب.
دراسات عن النزوح الداخلي في أماكن أخرى أظهرت أن النزوح لا يغيّر فقط أنماط السكن، بل يترك آثارًا طويلة المدى على الهوية والانتماء. إعادة تعريف "المنزل" تصبح عملية نفسية واجتماعية مُعقدة، تتجاوز إعادة الإعمار المادي.
رغم قسوة الظروف، هناك خطوات بسيطة يمكن أن تساعد النازحين على التكيّف النفسي والاجتماعي مع واقع النزوح:
تنظيم المساحة: استخدام أقمشة أو صناديق لفصل أماكن النوم عن المعيشة.
الحفاظ على الروتين: تحديد أوقات ثابتة للطعام والنوم والدراسة.
التعبير الإبداعي: تشجيع الأطفال على الرسم أو الحكي لتفريغ مشاعرهم.
الاحتفاظ بالرموز: الاحتفاظ بأغراض صغيرة من البيت القديم (صورة، كتاب، قطعة قماش) لإبقاء الرابط بالذاكرة.
بناء الروابط المجتمعية: التواصل مع العائلات النازحة المجاورة لتبادل الدعم.
خطط قصيرة المدى: وضع أهداف بسيطة قابلة للتنفيذ (إصلاح خيمة، ترتيب جدول يومي) بدل الانشغال بما هو بعيد المدى.
في النهاية، لم يعد "المنزل" بالنسبة للنازحين الفلسطينيين مجرد مكان للسكن، بل رمزًا للهوية ومرآة للذاكرة، وجزءًا من صراع الناس لحفظ وجودهم الإنساني وسط النزوح المتكرر. ورغم مرارة وقسوة النزوح، تبقى محاولات التكيّف اليومية وسيلة للحفاظ على التوازن والأمل، فيما يظل البيت الحقيقي أفقًا للعودة مهما طال الغياب.