مع بداية العام الدراسي الثالث على التوالي، لا يحمل أطفال غزة حقائبهم نحو الصفوف، بل يسيرون بين أزقة مخيماتٍ عشوائية نحو خيامٍ ضيقة أو ممراتٍ مكتظة في مدارس تحوّلت إلى مراكز إيواء.
في إحدى غرف مدرسة حكومية لم تُدمّر كليًا، تكدست عشرات العائلات على فرشات متلاصقة، فيما يكتب بعض الأطفال دروسهم على صناديق كرتونية استخدموها كطاولات بديلة.
منذ اندّلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تعد المدارس في غزة مجرد أماكن للتعليم، بل صارت ركامًا يختزن ذكريات آلاف الطلبة. جدران مثقوبة بالقذائف، ساحات تحولت إلى ملاجئ، ودفاتر امتلأت بتراب الخيام بدلًا من الحبر.
يقول إبراهيم حامد، طفل في الصف السادس، وهو يشير إلى لوحة تعليمية بالية علّقت فوق باب الصف: "هنا كنا نجلس لنردد جملة: مدرستي بيتي الثاني… الآن صارت بيتي الأول، لكن بلا دراسة".
بجانبه، تحاول والدته أن تُبعده عن النافذة بعد حدوث انفجارٍ قريب، وتهمس: "ينشغل ابني في التفكير بالمساعدات والتكية وجمع الحطب (...)، أخشى أن ينسى معنى المدرسة أصلًا".
لم ينجُ التعليم في غزة من آلة الحرب؛ إذ أظهرت البيانات أن ما يقارب 95% من المدارس الحكومية تضررت بدرجات متفاوتة، فيما تعرضت 803 مدرسة لأضرار مباشرة، بينها 736 مدرسة حكومية و67 خاصة، و10 مدارس تابعة للأونروا.
وبينما تشير أرقام وردت في تقريرٍ صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان معنون بـ "واقع العملية التعليمية خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة وانعكاساتها على الطلبة منذ أكتوبر 2023 وحتى سبتمبر 2025"، إلى أنّ ما يزيد على 740 ألف طالب انقطعوا عن التعليم أو نزحوا قسرًا، تتكثف صورة قطاع تعليمي يترنح بين الركام والبحث عن بدائلٍ هشّة لا تصمد أمام واقع الحرب.
تقول مديرة مدرسة ابتدائية في حي تل الهوى جنوب مدينة غزة، نهى خليل: "حين زرتُ مدرستي في فترة وقف إطلاق النار المؤقت، وجدت الطاولات محطمة والجدران متصدعة، والسبورات التي كنا نعلّق عليها أحلام الأطفال صارت قطع من الركام".
لم تكتفِ الأحداث الجارية بتدمير البنية التحتية للتعليم في قطاع غزة؛ بل طالت أيضًا أرواح الكثير من الطلبة والمعلمين. الطالب أحمد يوسف (16 عامًا) يروي أنه فقد الكثير من زملائه في غارات إسرائيلية متفرقة استهدفت أحياء من قطاع غزة: "لم يعد الأمر يتعلق بدراسة أو شهادات، أصبحنا نتساءل: من سيبقى على قيد الحياة لنكمل معه؟".
وتشير إحصاءات محلية إلى تأثر نحو 740 ألف طالب، أي ما يقارب 90% من إجمالي الطلبة في قطاع غزة، بفعل النزوح وتدمير المدارس، كما فقد أكثر من 25 ألف معلم بيئاتهم التدريسية. وتسبب النزاع في إصابة 16,879 بين الطلبة والمعلمين، بينهم 193 قتيلًا.
وإذا كان فقدان مقاعد الدراسة قد حرم الغالبية من حقهم الأساسي في التعليم، فإن الأثر كان مضاعفًا على الطلبة الأكثر هشاشة، مثل الأطفال ذوي الإعاقة، الذين وجدوا أنفسهم خارج أي بدائل تعليمية تقريبًا، في ظلّ غياب الوسائل المساندة والبيئات الملائمة.
تقول أميرة سليم، والدة طفل أصم يبلغ من العمر 12 عامًا: "كان ابني يعتمد على مترجم لغة الإشارة في مركزه، أما الآن فقد انقطع عن الدراسة بعد تدمير المركز وتشرّد المترجمين والطلبة. لا أحد يفسر له ما يحدث حوله، فأصبح يعاني من اضطرابات نفسية ويشعر أنه منفصل عن كل شيء".
أما روان خضر (14 عامًا)، وهي طالبة مصابة بشللٍ نصفي منذ إصابتها إثر قصف على بيتها شرق مدينة غزة، فتوضح أن الخيمة التعليمية المؤقتة في المخيم غير مهيأة لاستقبالها: "ليس لدي كرسي متحرك فأحتاج أن يحملني إخوتي حتى أصل إلى المدرسة لكن المكان والطريق لا يناسب وضعي. أشعر أنني غريبة في مكان من المفترض أن يكون للجميع".
بلغ عدد الطلبة ذوي الإعاقة في قطاع غزة نحو 19,450 طالبًا، فيما أضافت الحرب الحالية 37,000 حالة إعاقة جديدة، ما رفع النسبة إلى واحد من كل 25 شخصًا في القطاع. بالإضافة إلى ذلك فإنّ غياب الوسائل المساندة كالمناهج بلغة برايل أو الأدوات المساعدة جعل هؤلاء التلاميذ خارج حسابات العملية التعليمية.
دفع الوضع الراهن وزارة التربية والتعليم بغزة إلى الذهاب لخيار التعليم الالكتروني بعد استحالة التعليم الوجاهي، وذلك بالاعتماد على منصات مثلWise School وTeams، حيث التحق أكثر من 295,733 طالبًا بالتعليم الإلكتروني للعام الدراسي 2025/2026.
لكن الفجوة الرقمية في التحاق طلبة قطاع غزة بمقاعد الدراسة بدت صارخة لاسيما وأنّ العالم الدراسي انطلق وسط موجة من الإخلاءات التي أمر بها الجيش الإسرائيلي سكان مدينة غزة بالنزوح قسرًا إلى محافظات الجنوب، بالإضافة إلى تسرّب الكثير من الطلبة عن الدراسة، إذ بلغت نسبة المشاركة 24,9% للذكور مقابل 20.7% للإناث، وتفاوتت المشاركة بين المحافظات المختلفة.
قال وكيل وزارة التربية والتعليم في غزة خالد أبو ندى إن الوزارة فعّلت خطةً طارئة تجمع بين "المدارس الميدانية والنقاط التعليمية، والمنصات الإلكترونية البديلة، وتوزيع المحتوى عبر قنوات متعددة"، لكنه استدرك بأن "التعليم عن بُعد يواجه تحديات كبيرة في ظلّ الانقطاع التام للكهرباء والتدمير الممنهج للبنية التحتية بما فيها شبكات الإنترنت".
من جهته، يحذّر يوسف عوض الله، أخصائي علم النفس التربوي العامل مع منظمات دولية في غزة، من "فجوة معرفية وتعليمية عميقة" إذا ظلّ جيلٌ كامل بعيدًا عن مقاعد الدراسة، مؤكّدًا أنّ الأولوية بعد توقف الحرب يجب أن تكون "إعادة بناء المدارس واستئناف العملية التعليمية، لأن التعليم خط الدفاع الأخير عن هوية هذا الشعب".
ولاء مسلم، (16 عامًا)، طالبة نازحة إلى مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، تقول: "لدي هاتف قديم وثلاث أخوات نتناوب عليه. لا أجد فرصة لشحن الهاتف كل يوم، وكلما بدأ درس Teams ينقطع الانترنت؛ لذلك أسجّل ملاحظات من ذاكرة صديقتي لاحقًا".
أمّا آدم جلال، (13 عامًا)، طالب يقطن في غرفة مدمرة بحي الصحابة وسط مدينة غزة، يقول: "منصة وايز تعمل عندي، لكن الفيديوهات تتوقف كل دقيقة بسبب ضعف الانترنت. لم أكمّل درس واحد منذ بداية العام".
ضحى داوود، أم لديها خمسة من الأبناء في مراحل دراسية مختلفة، تقول: "نزوحٍ متكرر وغلاء الإنترنت، صار التعليم الإلكتروني رفاهية. الأولاد يحتاجون أجهزة وباقات لا نقدر عليها".
لم تكن الجامعات أفضل حالًا؛ إذ تضررت بفعل القصف الإسرائيلي 8 جامعات و7 كليات جامعية و5 معاهد متوسطة؛ الأمر الذي أثّر على أكثر من 63,432 طالبًا جامعيًا، كما فقَدَت الجامعات مختبراتها ومكتباتها، وأصبحت المحاضرات تتم عبر الإنترنت المتقطع.
تقول إسراء أحمد، أستاذة هندسة الحاسوب في الكلية الجامعية: "ما نخسره ليس فقط المباني والمختبرات، بل نخسر جيلًا كاملًا من الباحثين الذين كانوا على وشك التخرج".
كما أدى القصف المتكرر وأوامر الإخلاء والهجمات السيبرانية إلى تأجيل امتحانات الثانوية العامة عدة مرات إلى أن انعقدت بعد تأخر لعامين متتالين، فيما ارتفع معدل التسرب إلى 140 ألف طالب تقريبًا خارج مقاعد الدراسة. ويُحذّر مختصون من أن خسارة عامين دراسيين متتاليين ستدفع آلاف الطلبة إلى سوق العمل المبكر أو الهجرة.
الطالبة رنا أبو جزر (17 عامًا) تقول: "كنت في الصف العاشر عند بدء الأحداث، اليوم أنا في التوجيهي، أخشى أن تسرق الحرب مني حلمي. لا أعرف إن كنت سأستطيع إكماله أو أنني سأبقى عالقة في هذه الخيمة إلى الأبد".
أصبحت الخيام التعليمية المؤقتة بدائل محدودة وغير رسمية كخيار اضطراري للمدارس، لكنها عاجزة عن توفير بيئة تعليمية أو نفسية آمنة، حيث أشارت تقارير وزارة الصحة إلى ارتفاع ملحوظ في حالات الاضطراب النفسي والقلق لدى الطلبة والمعلمين.
تقول الأخصائية النفسية فلسطين ياسين: "الأطفال يكتبون على دفاترهم كلماتٍ مرتبكة، يخلطون بين الدروس وسط أصوات القصف. نرى تشتتًا شديدًا، نوبات هلع، وتعبًا جسديًا مرتبطًا بالضغط النفسي. هذا الجيل يحتاج إلى علاجٍ نفسي موازٍ للتعليم، وإلا فستبقى آثار الحرب ترافقهم مدى الحياة."
من منظورٍ حقوقي، ما يجري للتعليم في غزة ليس أزمة خدمات عابرة، بل انتهاكٌ لحق أصيل مكفول دوليًا: تحميه المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتؤكّده اتفاقية حقوق الطفل (28 و29)، ويقتضي شمولًا وإتاحة معقولة لذوي الإعاقة وفق اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (المادة 24). وعليه، تلتزم الأطراف كافة بضمان وصولٍ آمن للتعليم وبيئة تعلم وحماية نفسية ووسائل اتصال ومساندة حتى في الطوارئ.
وخلف كل نسبة طفلٌ مُبعد عن مقعده، ومعلمٌ فقد عمله، وجامعةٌ بلا مختبراتها. ومع تصاعد التسرب، وازدياد أعداد الطلبة ذوي الإعاقة، واتساع الفجوة الرقمية، يغدو التعليم في غزة من أكثر القطاعات هشاشة عالميًا، ما يهدّد مستقبل جيلٍ بأكمله.
لم يعد الاكتفاء بتعداد الخسائر مقبولًا؛ على المؤسسات الدولية الانتقال من التوثيق إلى الضمان عبر خطط زمنية وتمويلٍ مُلزم لإعادة تأهيل المدارس، وتوفير بدائل آمنة وميسورة، ودعمٍ نفسي-اجتماعي موازٍ للتعلّم، وآليات مساءلة تُنهي دوّامة الانقطاع وتعيد للتعليم مكانته كحقّ لا امتياز.
التعليم في غزة