يتكئ عصام أحمد (33 عامًا) على عكازه المعدني داخل خيمة صغيرة بمخيم للنازحين في مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، محاولًا السيطرة على حركاته المحدودة بعدما فقد يديه وقدمه اليمنى إثر قصف إسرائيلي استهدف منزله في رفح قبل عام.
ويصف أحمد تجربته عند خروجه لأول مرة بين الناس عند نقطة لتوزيع المساعدات الغذائية والدوائية: "لم أتخيل أن مجرد الانتظار لبضع ساعات للحصول على نصيبي من المساعدات سيكون بهذه الصعوبة، كل خطوة مؤلمة وكل حركة فوق قدرتي، لا أدوات مساعدة ولا حتى مرافق. كل شيء كان يجب أن أتعلمه من الصفر".
وسط الزحام والفوضى داخل المخيم، يجد نفسه مضطرًا للتفاعل مع مجتمعٍ لم يعتد عليه، يقول بصوت متهدج: "أحيانًا أرى في عيونهم شفقة لا أريدها، وأحيانًا ضيقًا من بطء حركتي، كان يجب أن أتعلم كيف أعيش أمام الجميع، دون عواطف وبلا خصوصية، في هذه الحرب التي جعلتني أفقد كل شيء، زوجتي، أبنائي، بيتي، وصحتي أيضًا."
أحمد ليس حالة فردية في قطاع غزة، فعشرات آلاف الأشخاص من ذوي الإعاقة أيضًا، تُركوا جرّاء النزاع يواجهون مصيرًا مجهولاً بالاندماج القسري داخل المجتمع، إذ أجبروا على العيش وسط بيئة خطرة وغير مهيأة.
ويضطر ذوي الإعاقة تحت وطأة الحرب للنزوح عبر طرق وعرة بلا مرافق، ويقيمون في ملاجئ مكتظة تفتقر للممرات ودورات المياه المخصصة، ويُحرمون من العلاج الطبيعي والأدوية والأدوات الأساسية التي تساعدهم على الحركة.
وإلى جانب ذلك يفتقرون للحماية من العنف والاستغلال، وللخصوصية في تلبية احتياجاتهم اليومية. هكذا يصبح حضورهم الجسدي اندماجًا شكليًا يضاعف هشاشتهم بدل أن يحمي حقوقهم. اليوم، يعيش واحد من كل 25 شخصًا في غزة مع إعاقة دائمة أو مكتسبة بفعل الحرب، في واحدة من أعلى المعدلات عالميًا في مناطق الصراع.
أم يزن شناعة، والدة طفل مصاب بالتوحد، نازحة في دير البلح وسط قطاع غزة، تحاول تهدئة ابنها يزن (10 أعوام) وسط أصوات القصف والزحام المستمر إذ تفاقم أعداد النازحين من حولها.
تروي والدته كيف تغيرت ظروف ابنها خلال الأحداث الجارية: "كان طفلي يذهب يوميًا إلى مركز التأهيل بجمعية الحق في الحياة في مدينة غزة، حيث يتعلم الرسم والمهارات البسيطة ضمن روتين معين وحياة منظمة، لكن الآن لا مدارس، لا مراكز، ولا أي روتين. كل شيء تغير فجأة."
يعيش اليوم يزن في بيئةٍ مختلفة تمامًا وسط فوضى وعشوائية النزوح في الخيام فيصرخ أحيانًا من شدة الإزعاج، فيما تتراوح نظرات الأسر المحيطة بين التعاطف والانزعاج.
وتوضح الأم أنها تجد نفسها مجبرة على شرح وضع ابنها في كل مكان تذهب إليه: "أشعر وكأننا نُختبر يوميًا أمام المجتمع، من لا يعرف التوحد يظن أنني أم عاجزة عن ضبط طفلي، وهذا يضاعف من عزلة ابني وعزلتي."
أما إبراهيم القيق (35 عامًا)، الذي يعتمد على كرسي متحرك في حركته، ويقيم مع أسرته في مركز إيواء بحي الرمال وسط مدينة غزة، فيقول: "كل خطوة على الكرسي المتحرك صعبة، الأرض غير مستوية والخيمة مزدحمة، أحيانًا أشعر أنني عالق بلا حركة".
يتابع بنبرة حزينة:" أحتاج مساعدة من عائلتي لأتمكن من الوصول إلى دورة المياه أو الخروج لتلبية متطلبات أطفالي. حياتي اليومية بلا خصوصية، والكرسي الذي أعتمد عليه مهترئ ويحتاج إلى تغيير، لكن لا مؤسسات توفر بدائل."
ورغم محاولاته التكيف، يواجه القيق صعوبة في الاندماج مع المحيطين به، فيشير إلى أن أصعب ما يواجهه ليس فقط المشقة الجسدية، بل نظرة المجتمع: "كثيرًا ما أعتذر عن الجلوس مع الرجال في الخيمة لأنني أحتاج من يساعدني في كل تفصيل. أشعر أنني غريب وسط مجتمعي، وأنني أصبحت شخص يعتمد على الآخرين طوال الوقت."
تواجه فاطمة علي (28 عامًا) ظروفًا مشابهة، وهي شابة كفيفة منذ طفولتها، تعيش اليوم في خيمة نزوح بخان يونس. تقول: "كنت أعتمد على مركز متخصص لتعليم المكفوفين، حيث أتعلم القراءة بطريقة برايل وأحصل على دعم نفسي. الآن لا مراكز ولا كتب ولا أدوات مساعدة."
وتردف علي: "الأصعب أنني كفتاة أفتقد للخصوصية. أحتاج إلى مساعدة في أمور شخصية لا أستطيع طلبها من أي أحد، ومع غياب المنتجات الصحية الأساسية أشعر بالحرج الدائم."
وتوضح أن صعوبة اندماجها في المجتمع مضاعفة: "لا معلومات متاحة بلغة برايل، ولا أحد يشرح لنا ما يجري. أضطر أن أسأل من حولي في كل شيء، وهذا يجعلني أشعر أنني على الهامش. النساء الأخريات يتحدثن عن يومياتهن، أما أنا فأبقى صامتة لأنني لا أستطيع مشاركة ما أفتقده".
الأخصائية النفسية منار بنات تفسر ما يواجهه ذوو الإعاقة عندما يُجبرون على مواجهة المجتمع مباشرة خلال الحرب، وبدون مرافقين أو خدمات مساعدة، يواجهون صدمة مزدوجة من فقدان الأمان والخصوصية والشعور بالعجز أمام كل تحدٍ يومي."
وتحذر من أنّ هذا الوضع قد يؤدي إلى اضطرابات قلق واكتئاب، خصوصًا لمن أصيبوا حديثًا بإعاقات نتيجة الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023. كما أنّ غياب الدعم النفسي أو التربوي يجعل تكيف ذوي الإعاقة مع الواقع الجديد أكثر صعوبة.
وقد تسبب الوضع الراهن في تنامي هذه الفئة بشكلٍ كبير. إياد الكرنز، منسق مجموعة عمل الإعاقة في قطاع غزة، يفيد أنّ الحرب الحالية أفرزت حوالي 37 ألف حالة إعاقة جديدة، ما رفع العدد الإجمالي إلى نحو 95 ألف شخص، أي أكثر من 4% من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة.
هذه النسبة، تعني أن أربعة أشخاص من بين كل مائة شخص يعانون من إعاقة -على اختلاف أنواعها-، وهو ما يفوق المعدلات العالمية في مناطق النزاعات. يضيف الكرنز: "غياب المؤسسات والخدمات المتخصصة زاد المعاناة، فالمراكز التي كانت تقدم الدعم توقفت، والاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والصحة والأدوات المساعدة لم تعد متوفرة."
كما يشير الكرنز إلى معاناة النساء والفتيات ذوات الإعاقة فيقول: "صعوبة الحصول على الغذاء والخدمات الصحية، بما في ذلك الحفاضات والمنتجات الصحية، تمثل تمييزًا مركبًا يجمع بين الإعاقة والنوع الاجتماعي، ويجعل اندماجهن أكثر قسوة".
أمام هذا الواقع، توجهت مراسلة "آخر قصة" إلى وزارة التنمية الاجتماعية بغزة للتعرّف على دورهم في مساعدة ذوي الإعاقة على الاندماج في المجتمع خلال النزاع. غسان فلفل مدير دائرة تأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة في الوزارة يوضح أن النزوح القسري وتزايد الإصابات جعل الفئات المختلفة من ذوي الإعاقة متضررة بشكل كبير، بما فيها الحالات المصابة بالتوحد والإعاقات الذهنية.
ويقول فلفل: "الاندماج القسري لذوي الإعاقة صعب جدًا بسبب غياب المؤسسات والخدمات وصعوبة توفير أماكن ملائمة للسكن، بالإضافة إلى نقص الأدوات المساعدة والمواد الأساسية."
وأشار إلى أن الوزارة تعمل على تحديث البيانات وإنشاء رابط إلكتروني لتسجيل معلومات واحتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة، لكن استمرار النزوح وصعوبة التواصل يعقدان العملية ويجعلانها محدودة الأثر.
يكفل القانون الفلسطيني رقم (4) لسنة 1999 بشأن حقوق المعوقين، حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، إذ تنص المادة (4) على ضمان هذه الحقوق، بينما تُلزم المادة (3) بتسهيل حصولهم عليها حتى في أوقات الأزمات. لكن ما يجري يمثل إخلالًا بهذه الحقوق، وفقًا لما أشار إليه المحامي أمير عزام.
ويفيد عزام أنّ فرض الاندماج القسري على ذوي الإعاقة في بيئات مزدحمة، وغياب الخدمات الأساسية مثل النقل والمراكز التأهيلية، يُشكِّل انتهاكًا للقانون، الذي يضمن لهم التعليم والصحة والدعم النفسي. ويقول: "لكن توثيق هذه الإخلالات أصبح ضروريًا لضمان مساءلة الجهات المسؤولة".
ورغم أن فلسطين صادقت على اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي تنص على توفير بيئات آمنة وخدمات أساسية حتى في الطوارئ، فإن المنظمات الأممية والإنسانية لم تقدم سوى تدخلات محدودة لا ترقى إلى حجم الكارثة.
بين شهادات عصام ويزن وإبراهيم وفاطمة ومعطيات الأخصائيين، يظهر أن الحرب لم تكتفِ بزيادة أعداد ذوي الإعاقة في غزة، بل فرضت عليهم اندماجًا قسريًا بلا حماية ولا خصوصية.
وهنا يبقى السؤال عالقًا في الفراغ وسط ضجيج الحرب: هل ستتحمل وزارة التنمية والسلطات الصحية والاجتماعية في فلسطين، ومعها المؤسسات الدولية والأممية، مسؤولياتها القانونية والإنسانية؟ أم سيظلّ ذوو الإعاقة في مواجهة حرب مضاعفة، بلا خدمات ولا دعم، في انتهاك صريح لحقوقهم المكفولة؟