موجة النزوح تغرق الخيام في كارثة الصرف الصحي

موجة النزوح تغرق الخيام في كارثة الصرف الصحي
موجة النزوح تغرق الخيام في كارثة الصرف الصحي

بين خيام متلاصقة في عموم قطاع غزة، يتناثر الغسيل على حبال مشدودة بين أعمدة خشبية هشة، وتتصاعد روائح النفاذة من حفر امتصاصية حُفرت على عجل قرب أماكن النوم. 

يركض أطفال حفاة بين برك صغيرة من المياه الملوثة، فيما تحاول أمهاتهم تغطية وجوههم ليلاً بقطع قماش مبللة، علّها تخفف شيئًا من الهواء المحمّل بالروائح والحشرات المنتشرة. 

لم يعد هذا المشهد استثناءً في مخيمات النزوح بقطاع غزة، بل تحوّل إلى جزء من الحياة اليومية لآلاف العائلات التي تفتقر إلى أبسط خدمات الصرف الصحي.

في خيمة مهترئة نصبت على عجل في منطقة الزوايدة وسط قطاع غزة، يعيش محمد خلة (56 عامًا)، حيث بدت الحياة أكثر قسوة، تنعدم فيها أدنى المقومات الأساسية، لا سيما المرافق الصحية وشبكات الصرف، ما اضطره إلى حفر حفرة بدائية جعلت الخيمة تغرق في الروائح الكريهة وتزيد وضعه الصحي الحرج سوءًا.

خلة مريض قلب يقطن مع أسرته المكونة من ستة أفراد، أصغرهم لم يتجاوز العاشرة، نزح عدة مرات حتى استقر في مكانه الحالي ووجد نفسه أمام خيار الحفرة بديلاً عن المرحاض، لتكون مخرجًا مؤقتًا في غياب أي بنية تحتية، لكنها حولت الخيمة إلى مكان يصعب احتماله مع تزايد معاناته الصحية.

يقول وهو يشرح محاولاته: "نحاول الحفاظ على نظافة المكان، لكن الوضع سيئ، والمرحاض غير صحي، ومع ذلك فهو أفضل من لا شيء". 

وإلى جانب معاناته من مرض القلب، تحاصر خلة هواجس أخرى، فقد سبق أن أصيب هو وأفراد أسرته بأمراض جلدية وبكتيرية في إحدى محطات نزوحهم السابقة، وهو يحاول جاهدًا ألا يتكرر ذلك، لكن الخيارات أمامه محدودة إلى حدّ العدم، فلا أدوات تقيّه التلوث ولا شبكات صرف تضمن له بيئة صحية.

في دير البلح وسط القطاع، تجلس أم فادي شنار أمام خيمتها بعد أن عاشت رحلة نزوح متكررة بدأت من بيت حانون شمالاً ثم مدينة غزة وصولًا إلى هذه المحافظة. داخل الخيمة لا تملك سوى "دلو" تستخدمه كمرحاض مؤقت، وتضطر كل صباح إلى السير مسافات طويلة لتفرغه في منهل بالشارع. 

تقول شنار لمراسلة "آخر قصة": "الوضع صعب ومرهق ومهين"، قبل أن تضيف أنها تتحمل مسؤولية إعالة خمسة أفراد، أصغرهم يبلغ ستة عشر عامًا فيما تنتظر السيدة ساعات طويلة حتى الصباح لتصريف الدلو، والرائحة تلازمهم طوال الليل.

ولا تخفي أم فادي شعورها بالأسى والقهر لغياب أدنى معايير الخصوصية، تضيف: "بكيت كثيرًا طوال الليل وأنا أشعر بانحطاط الكرامة الإنسانية".

على قارعة الطريق في المكان نفسه، وصلت المسنة سلمى العثامنة ذات الخمسة والستين عامًا قبل أيام قليلة فقط بعد رحلة نزوح مرهقة من مدينة غزة بعد قرارات الإخلاء الأخيرة التي أصدرها الجيش الإسرائيلي لسكان المدينة في ظلّ استمرار الحرب الإسرائيلية على القطاع لنحو عامين متتالين.

خيمة هذه السيدة بلا مرحاض، ولا ماء، ولا حتى دلو. كلماتها جاءت موجزة لكنها كاشفة عن حجم العجز: "أستخدم كيسًا لقضاء الحاجة، أعاني من ضغط الدم والسكري، لكن من يسمع؟".

أمّا أم أحمد الرزاني، (52 عامًا)، فقد جاءت من مدينة غزة قبل يومين فقط. جلست عند باب خيمتها في محاولة لاستنشاق بعض الهواء وسط حرارة الصيف، بينما تحاول إدارة شؤون أسرتها المكونة من ستة أفراد. 

تقول بعد تنهيدة طويلة: "نضع دلوًا لاستخدامه كمرحاض، لكنني مريضة ضغط دم، وأحتاج للذهاب كثيرًا، الوضع خانق". في نزوحها السابق أصيبت باليرقان لأكثر من شهرين، وربطت إصابتها بتلوث البيئة وسوء شبكات الصرف الصحي.

تجارب هؤلاء النساء تحديدًا تُجسد ما تحذر منه الأخصائية النفسية فداء مهنا، التي ترى أن غياب مرافق الصرف الصحي الآمنة لا يهدد الصحة الجسدية وحدها، بل يحمل انعكاسات نفسية واجتماعية عميقة. 

وتوضح مهنا أن هذه التجارب اليومية تزرع القلق والتوتر وتعمق الإحباط واليأس، وتؤثر على التماسك الاجتماعي والثقة بالنفس، خاصة لدى النساء والفتيات اللواتي يجدن أنفسهن محاصرات بين المرض والمجتمع والخوف.

من جانبه، يفيد وديع حمدان، مدير مكتب رئيس بلدية الزوايدة ومدير مجلس الخدمات المشترك، أنّ البلدة كانت مغطاة قبل موجة النزوح الأخيرة بمعدّل 80% بشبكات الصرف الصحي والمياه، مع استثناء المناطق الزراعية والنائية. 

الزوايدة، بمساحة تبلغ سبعة آلاف ومئتي دونم، يشغل السكان والمخيمات نحو 60% منها، فيما تبقى 40% أراضٍ زراعية. لكن الأوضاع تغيرت بشكل دراماتيكي مع تدفق أكثر من مئة ألف نازح إلى المنطقة، وهو رقم يفوق قدرتها الاستيعابية بكثير ويضغط على البنية التحتية الهشة أصلًا. 

وأشار حمدان أن المناطق الغربية المحاذية للبحر كانت مشمولة بالخدمات، لكن العشوائيات التي نشأت مؤخرًا لا يمكن تغطيتها بسرعة، ما جعل الواقع الصحي كارثيًا.

وفي خانيونس جنوب قطاع غزة، لم يختلف المشهد كثيرًا. البلدية أعلنت -في وقتٍ سابق- أن نحو 60% من خدمات المياه والصرف الصحي تعطلت بسبب نفاد الوقود اللازم لتشغيل المضخات ومحطات المعالجة نتيجة منع الاحتلال الإسرائيلي إدخاله للقطاع، محذّرة من كارثة صحية وبيئية مع تدفق مياه الصرف الصحي في الشوارع وانتشار الروائح الكريهة. 

وأكدت بلدية خانيونس أن الحفر الامتصاصية البدائية المنتشرة في المخيمات الجديدة باتت مصدر تهديد مباشر، ما دفعها إلى إصدار توجيهات عاجلة بضرورة ردمها، بعدما تحولت إلى بؤر محتملة للأمراض والأوبئة.

أما في مدينة غزة، فقد تحدّث المتحدث باسم البلدية عاصم النبيه عن “كارثة إنسانية خانقة” بعد أن توقفت محطات الصرف الصحي بالكامل تقريبًا، وأشار إلى أن نقص المواد الأساسية لإصلاح الشبكات زاد من تفاقم الأزمة. 

وأكد النبيه على أن خيام النازحين باتت محاصرة بمياه المجاري، في وقتٍ لم تعد البلديات قادرة على مواجهة الانهيار شبه الكامل للبنية التحتية كواحدة من تدّاعيات استمرار النزاع.

بدوره، يحذّر المختص في الشؤون البيئية، نزار الوحيدي، من كارثة متفاقمة، ويوضح أن المناطق غير المشبوكة بشبكات الصرف الصحي باتت ملوثة بشكل مباشر وتهدد حياة السكان، خاصة مع الظروف المناخية الدافئة التي تُعد مثالية لنشاط الميكروبات والبكتيريا. 

يقول: "نحن لا نتحدث فقط عن البكتيريا الطبيعية، بل عن المسببة للأمراض، والتي تجد في هذه الظروف بيئة مناسبة جدًا للتكاثر والانتشار، ما يضع صحة النازحين في مهبّ الخطر". ويشير إلى أن أكبر ملوث لحياة الإنسان هما الدم ومخرجاته من بول وبراز، وأن سوء إدارة الصرف الصحي كان وراء انتشار أمراض بأرقام مخيفة في العام الماضي.

ويضيف الوحيدي أن الاعتماد الحالي يقوم على حفر امتصاصية بدائية، بعضها مجرد براميل صدئة أو حفر ترابية تسمح بتسرب الملوثات إلى التربة والمياه الجوفية، خاصة في مناطق كالوسطى حيث الخزان قريب من سطح الأرض وغالبًا ما تُستخدم مياهه للشرب؛ ما يعني أن دورة التلوث تبدأ من المرحاض وتنتهي إلى فم الإنسان بلا معالجة.

وينبه من أن مناطق النزوح لم تُعد أصلًا للسكن البشري، فهي أراضٍ زراعية كان يفترض أن تخدم بضعة مزارعين، لكنها اليوم تؤوي ما يقارب نصف مليون إنسان بكثافة تصل إلى خمسمائة شخص في الكيلومتر المربع، قائلاً: "النازحون يسكنون في بيئة اختلطت فيها الخيام بمياه المجاري، في وضع لا يمكن للعقل البيئي أو الصحي أن يستوعبه أو يتقبله".

وبينما تستمر الحرب والنزوح، تتعمق مأساة الغزيين في غياب بنية صرف صحي بين الخيام، بما يحرمهم من أبسط حقوقهم في الصحة والكرامة، ويمثل انتهاكًا صريحًا لالتزامات اتفاقية جنيف الرابعة والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.