على خارطة أجسادهن ندوب لا تُمحى

مصابات الحروق

على خارطة أجسادهن ندوب لا تُمحى

تسقط أشعة الشمس القاسية عبر شقوق جدار مهدّم، فتنعكس على مرآة متصدعة بين يدي هالة القيشاوي (40 عامًا). ترفعها ببطء، تحدّق في ملامح لم تعد تعرفها، تجاعيد متفحمة، ندوب متشابكة، وبقايا مكياج ذاب مع أول محاولة يائسة لإخفاء الحروق.

تتذكر صرخة أحدّ الأطفال عندما رآها شهق رعبًا من شكلها، فترتجف يداها، وتسقط الدموع كأنّها تعيد اشتعال النار التي التهمت وجهها ذات صباح بينما كانت تُشعل موقدًا صغيرًا من نار الحطب لفنجان قهوة.

في ثوانٍ، التصق اللهب بجسدها فأصيبت بحروق من الدرجة الثانية في الوجه، ومن الثالثة في الظهر والصدر والقدم اليسرى. فتركت هذه الحادثة ندوب واضحة في وجهها ونفسها، وهكذا تحوّلت القيشاوي من ناشطة مجتمعية تعمل في مركز حمد بن جاسم، إلى امرأة ترفض مواجهة الناس خوفًا من نظرات التنمّر.

تقول بصوت باكٍ وهي تنظر لعظام يدها البارزة: "أنا لا أتقبّل شكلي الجديد نهائيًا، حتى الكحل الذي جربت وضعه ذاب داخل عيني، وجهي ما زال متجعدًا بفعل الحروق؛ لذلك منذ إصابتي أرفض رؤية أي أحد حتى لا يروني بشكلي الجديد فتوقفت حياتي تمامًا".

تعيش القيشاوي في بيتها المدمَّر بلا نوافذ؛ ما يجعلها مطاردة بأشعة الشمس التي حذّرها الأطباء من التعرض لها، كما أنّ الأدوية والمراهم الخاصة بالحروق إمّا مفقودة أو منتهية الصلاحية أو تُباع بأسعار باهظة؛ مما فاقم إصابتها وأوقف أي تحسن ممكن.

لم تكن هالة حالة استثنائية، آلاف المصابين بحروق في غزة اليوم يعيشون بذات الندوب التي تفرضها نار الحرب على الجسد والنفس معًا. انهيار النظام الصحي، وتدمير قسم الحروق في مجمع الشفاء، جعل من كل إصابة كارثة مضاعفة. 

لا يتجاوز عدد أطباء الحروق المتخصصين في القطاع خمسة فقط، فيما تستقبل منظمة أطباء بلا حدود يوميًا ما يقارب 200 مريض في منطقة شمال وادي قطاع غزة وحده، بما يشير إلى أكثر من 140 ألف حالة خلال فترة النزاع منذ أكتوبر 2023 التي تجاوزت 700 يوم، 70% منهم مصابون بحروق عميقة. 

وفي مجتمعٍ محاصر يعاني من سوء تغذية وفقر دوائي، تتحوّل الحروق إلى ندوبٍ دائمة تلاحق المصابين مدى الحياة، خصوصًا النساء والأطفال الذين يشكِّلون النسبة الأكبر من هذه الحالات.

دينا كمال (27 عامًا) ألقاها قصف إسرائيلي استهدف منزلهم مسافة 10 مترات إلى الخارج، فوجدت فاقدة للوعي بعد إصابتها بشظايا حارقة عرضت الشق الأيمن من وجهها ورقبتها ويدها إلى حروقٍ بالغة.

تقول: "كلما نظرت إلى جسدي المليء بالندوب، أفكر أنني حتى لو أردت أن أبدأ حياة جديدة فلن يقبل بي أحد. الناس هنا ينظرون أولًا إلى شكل المرأة قبل أي شيء آخر"، إذ لا تقتصر خسارتها على ملامحها أو صحتها، بل تمتد إلى حقها البسيط في أن تُعامل كامرأة كاملة غير منقوصة.

تُظهر تقارير هيومن رايتس ووتش أن النساء في غزة اللواتي يعانين من إعاقات أو تشوّهات جسدية يواجهن تمييزًا مضاعفًا، إذ ينظر إليهن المجتمع في كثير من الأحيان باعتبارهن "غير مؤهلات للزواج". 

ويشير خبراء إلى أنّ هذا التصوّر السائد يجعل الندوب على أجساد النساء لا تُختزل في بعدها الصحي أو النفسي، بل تتحوّل إلى حكم اجتماعي يقيّد فرصهن في بناء حياة أسرية، ويضع معيار الشكل الخارجي فوق أي اعتبار آخر.

في حي آخر داخل مدينة عزة، تحمل الطفلة ريتال الغرة (7 سنوات) مرآة صغيرة بين يديها، تسأل والدها بإلحاح: "هل سأعود جميلة كما كنت؟ هل ستعود بشرتي بيضاء؟". وجهها مغطى بالضمادات بعد إصابتها بحروق من الدرجة الثالثة؛ إثر قصفٍ إسرائيلي. 

منذ تلك اللحظة، فقدَت ريتال شقيقتيها أمام عينيها، وأصيبت بهذه الحروق التي غيرت ملامحها بشكلٍ واضح، فصارت طفلة منطوية، تحاول أن تستعيد صورتها القديمة في المرآة.

الغرّة تتابع علاجها في أحد مقرّات منظمة أطباء بلا حدود داخل مدينة غزة، حيث تحصل على الضمادات، لكنها غير كافية بسبب نقص الأدوية، وفي كل زيارة تسأل الأطباء كالكبار: "هل سيرجع وجهي كما كان؟".

سجى جنيد ذات السبعة أعوام عاشت تجربة مشابهة، بعدما انصهر جسدها إثر قصف منزلهم، فكان وجهها الأكثر تضررًا من نار الصواريخ. تقول والدتها، وهي تقلب صور سجى قبل الحادثة: "انفجر الصاروخ علينا، ومنذ تلك اللحظة صار وجه ابنتي غريبًا عنها وعنّا". 

سافرت الأم معها إلى الخارج بحوالة طبية حيث القاهرة بحثًا عن علاج، ومع ذلك بقيت التشوهات واضحة على جسدها، بعدما فشلت غزة في توفير المراهم الأساسية في بداية الحادثة؛ ما يجعل والدتها تخشى أن ترافقها هذه الآثار مدى الحياة.

زهراء مصطفى عاشت التجربة بألمٍ أكثر قسوة، عندما أصيبت قدميها بحروقٍ من الدرجة الرابعة، وما زالت ترتجف حتى اليوم كلما كشفت عن قدميها المحترقتين. 

قُصف منزل مصطفى (30 عامًا)، فقُتل زوجها وكل عائلته، بينما نجت مع ابنتيها، وأصيبت رضيعتها ذات الـ 39 يومًا بنزيف في الرأس، أما جسدها هي فالتهمته النار حتى العظم. 

تقول وهي تمسح دموعها: "ما زلت أذكر عندما كنت تحت الأنقاض، وشممت رائحة اللحم المحترق مختلطة برماد الصاروخ. هذا شعور لا يوصف".

تحاول إخفاء ندوبها دائمًا عن عيني طفلتيها، تردف: "كلما لمستا قدمي سألتا: لماذا جسدك مختلف عنا؟ هل سيشفى يومًا؟".

حنان حمدان (62 عامًا) تقيم اليوم في مدرسة إيواء بعد قصف منزلها وإصابتها بحروق في الوجه، بينما تزيد الحرارة والرطوبة والحشرات من معاناتها. تقول وهي تمسك مرآة مغبّرة: "أخاف النظر إليها. كل مرة أرى وجهي المحروق تسوء حالتي النفسية".

قبل الحرب كان في مجمع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة قسم مخصص للحروق، لكن الاحتلال الإسرائيلي دمّر القسم بالكامل؛ ما تسبب اليوم في فقرٍ علاجي متخصص في هذا المجال بشكلٍ كبير، فبعض الإصابات من الدرجة الرابعة، تصل إلى العظم وتؤدي للوفاة.

إلى جانب انهيار أقسام متخصصة كقسم الحروق في مجمع الشفاء، يفاقم الحصار الإسرائيلي الوضع عبر منع دخول أصناف أساسية من الأدوية والمستلزمات الطبية. 

وزارة الصحة في غزة تحذر من "فقر دوائي مزمن" وصل في بعض الفترات إلى أكثر من 45% من قائمة الأدوية الأساسية، ما يعني أن نصف المرضى تقريبًا لا يجدون علاجهم. 

وفي ظل الحرب الحالية، ازداد هذا العجز مع استمرار القيود الإسرائيلية على المعابر ومنع وصول الإمدادات الطبية، لتتحول كل إصابة بالحروق إلى رحلة مفتوحة من الألم دون علاج.

الطبيبة الجلدية وسام سكر، المتخصصة في الحروق في منظمة أطباء بلا حدود فرنسا، تقول: "غالبية الحالات التي نستقبلها يوميًا هي من الأطفال والنساء الذين تبقى آثار الحروق واضحة على أجسادهم وبعضها تبقى بلا علاج".

وتشير الطبيبة سكر إلى أنّ هذه الحروق غالبًا عميقة وتحتاج عمليات ترقيع أو تنظيف، وهي غير متوفرة في مستشفيات قطاع غزة، بالإضافة إلى أنّ نقص الغذاء والأدوية يعقّد التئام الجروح، ويجعل فرص زوال الندوب شبه معدومة.

وتقول سكر: "الحروق تؤثر على الناحية الجمالية والنفسية لدى النساء، وبعضها تترك آثار دائمة تلازم المصابين مدى الحياة، وقد تؤثر على الشكل الخارجي والوظيفي وخصوصًا إصابات الوجه والأطراف، وتزيد هذه الآثار بفعل نقص المستلزمات الطبية والتدخل الجراحي".

تعتمد المنظمة في علاج هذه الحالات على التدليك، والضمادات الضاغطة، والسيليكون لتخفيف الندوب، كما طوّرت أقنعة ضاغطة بتقنية 3D لعلاج حروق الوجه والرقبة، وهي الخدمة الوحيدة من نوعها في غزة.

منذ ديسمبر 2024، أجرت "أطباء بلا حدود" أكثر من 6518 عملية جراحية، 70% منها لأطفالٍ دون سن الخامسة، في مشافي دير البلح وسط قطاع غزة وناصر جنوب القطاع وعيادتها العاملة في مدينة غزة.

المنسقة الطبية جولي فوكو تؤكد أنّ "ثلاثة من كل أربعة مصابين حروق هم أطفال، و40% نساء. وتفيد أنّ علاج الحروق يتطلب عناية طويلة الأمد وتدخلًا جراحيًا سريعًا، لكن اليوم لا غرف عمليات ولا بدائل جلد متاحة؛ ما يضطر الأطباء للمفاضلة بين الحالات.

ومع ذلك، فالحروق تترك أثرًا أبديًا على الجسد، لكنها تزرع ندوبًا أعمق في النفس. تقول الأخصائية النفسية فلسطين ياسين إن المصابين بالحروق يعانون غالبًا من اضطراب صورة الجسد، وهو ما يدفعهم إلى العزلة والاكتئاب وفقدان الثقة بالنفس، ويجعل أي تعليق جارح من المحيط سببًا إضافيًا لمزيد من الانكماش والانطواء. 

وتوضح أن بعضهم قد يواجه أيضًا أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، خصوصًا حين تتداخل ندوب الجسد مع ذكريات الفقدان أو لحظة الانفجار.

وتشير ياسين إلى أن آثار الحروق لا تتوقف عند الجانب الصحي أو النفسي، بل تمتد إلى البُعد الاجتماعي، لا سيما لدى النساء. ففي مجتمع ما زال يقيس فرص الزواج بمعايير جمالية محددة، قد تتحول الندوب إلى عائق أمام تكوين حياة أسرية، وهو ما يضاعف شعور النساء المصابات بالحرمان والتمييز. 

تقول ياسين: "التجربة المشتركة تساعدهن على التقبّل والمواجهة"، مؤكدة أن مجموعات الدعم الجماعية والعلاج النفسي تمثل خط الدفاع الأول لمساعدة النساء على استعادة شعورهن بالجدارة والقدرة على العيش بكرامة.

على خارطة أجسادهن ندوب لا تُمحى، فيما يظل غياب العدالة الصحية وانهيار المنظومة الطبية شاهدًا على مسؤولية محلية ودولية تجاه جراحٍ لا تجد علاجًا.