شكاوى من إغلاق حسابات بنكية يفاقم الأزمة المعيشية

شكاوى من إغلاق حسابات بنكية يفاقم الأزمة المعيشية

لم يكن المحامي بهاء الحملاوي يتوقع أن يجد نفسه عاجزًا عن شراء دقيق لأسرته، رغم وجود رصيد كافٍ في حسابه البنكي. فالمشكلة لم تكن في المال نفسه، بل في قرار مفاجئ بتجميد حسابه حال دون قدرته على استخدام رصيده أو إجراء أي عملية دفع عبر حسابه البنكي.

الحملاوي وهو نازح من حي تل الهوى جنوب مدينة غزة إلى مخيم البريج وسط القطاع، ويبلغ من العمر 34 عامًا، كان يعتمد على التحويل البنكي لتأمين احتياجات أسرته المكونة من زوجته وطفليه محمد (5 سنوات) وحسن (7 سنوات). 

يقول الرجل: "إن اعتمادنا الكامل على الشراء بنكيًا، إذ ليس لدينا مصدر دخل يوفر لنا مال نقدي. النقابة تقوم بتحويل مستحقاتنا شهريًا إلى حساباتنا البنكية، لكن فجأة توقف الحساب، ولم أتمكن من شراء حتى الطحين لأولادي."

كان الحملاوي يستخدم حسابه يوميًا في الكثير من عمليات التحويل يقول إنها ما بين 10 إلى 15 عملية تحويل صغيرة، وتتراوح بين 20 إلى 50 شيكل، لشراء مستلزمات لعائلته وعائلة والده الذي يعمل موظفًا لدى السلطة الفلسطينية. 

يردف: "أنا الوحيد الذي أمتلك حساب بنكي في عائلتي فأقوم بخدمة أسرتي وأسرة والدي، وأضطر إلى إجراء تحويلات عديدة لأنّ أصحاب المحال لا يقبلون الانتظار حتى أقوم بعملية التحويل كل عدة أيام". 

لكنه فوجئ في آخر مرة عندما حاول الدفع في السوق وفشل التحويل. يتذكّر الموقف بمرارة: "اتصلت بصديقي ليحول إلى حسابي، فأجابني: (حسابك لا يستقبل الأموال). واضطررت لإرجاع الأغراض رغم أن لدي رصيدًا في حسابي".

البنك، وفق ما أخبره موظفوه، أوقف الحسابات بدعوى "تحديث البيانات" دون سابق إنذار. لكن في ظلّ إغلاق الفروع وتعطّل البنية المصرفية في قطاع غزة بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية منذ نحو عامين، بدا الأمر تعسفيًا. 

يتابع الحملاوي، الذي حاول إثبات هويته عبر الإجابة على أسئلة سرية للبنك، دون جدوى: "بنك فلسطين لا يبدي أي اهتمام بمشاكل سكان غزة، وكان يفترض أن يضع آلية لتحديث البيانات قبل إيقاف الحسابات، بدلًا من إدخال الناس في هذه الكارثة فجأة".

لا تقتصر المشكلة على محامين أفراد أو حالات معزولة، بل تحوّلت إلى أزمة مصرفية تمسّ آلاف العائلات في غزة، جعلت أصحابها عاجزين عن التصرف بأموالهم أو شراء احتياجاتهم الأساسية، رغم أنّ الشراء عبر التطبيق البنكي كان المنفذ الوحيد لهم في ظلّ شح السيولة الحادّ.

في هذا السياق، عبّر علي الدن، أمين صندوق نقابة المحامين بغزة، عن استياء شديد من القرار، واصفًا إياه بأنه "تعسفي وغير أخلاقي وغير وطني". وأوضح أن تعطيل حسابات مئات المحامين تمّ دون أي إشعار مسبق، وفي وقت كانت فيه فروع البنوك مغلقة، الأمر الذي جعلهم عاجزين عن تلبية أبسط احتياجات أسرهم.

يضيف الدن: "كان من الممكن تحديث البيانات بآلية عملية، سواء عبر موظفين مختصين أو بالتنسيق مع النقابة، بدلًا من إيقاف الحسابات فجأة".

القرار، كما يقول الدن، ترك مئات المحامين عاجزين عن تلبية احتياجات أسرهم، في وقتٍ يعتمد فيه نحو ستة آلاف محامٍ بين مزاول ومسجل على حساباتهم لدى البنك ذاته.

المحامي معين أبو غالي عاش تجربة مشابهة. في 10 أغسطس، وأثناء محاولته شراء حاجيات لأسرته عبر التحويل البنكي، فوجئ بأنّ حسابه مغلق، ثم أعيد فتحه بعد خمسة أيام، قبل أن يُغلق مجددًا في 31 أغسطس. 

يقول: "كنت أشتري من خلال التطبيق، وفجأة لم أتمكن من إجراء التحويل بعد توقف الحساب، وحتى المحفظة البنكية وجدتها مغلقة".

أبو غالي يعيل خمسة أفراد، ويستضيف في منزله عشرين نازحًا، ويقول إن غياب السيولة أجبره على الاستدانة: "أموالي موجودة في البنك، ومع ذلك لا أستطيع شراء أي شيء لأطفالي. الكثير من الاحتياجات الضرورية متاحة ومتوفرة في السوق لكن أنا لا أتمكن من شرائها".

عضو مجلس نقابة المحامين في غزة، مظهر سالم، يقول إن هناك نحو 800 حساب لمحامين أُغلقت في 8 أغسطس، قبل أن يعاد تفعيلها مؤقتًا ثم تجميدها مجددًا نهاية الشهر. فاقترحت النقابة إرسال موظفين من البنك إلى مقرها لتحديث البيانات، لكن المقترح لم يلقَ ردًا.

ويضيف سالم: "القانون يلزم البنك بإشعار العميل مسبقًا قبل إغلاق الحساب، وهو ما لم يحدث"، مشيرًا إلى أن أموال النقابة في غزة والضفة تُقدَّر بملايين الدنانير، جميعها مودعة في بنك فلسطين. 

هذا الموقف الذي عبّر عنه سالم لم يكن رأيًا فرديًا فحسب، بل جاء متسقًا مع ما أكدته النقابة في بيان رسمي أصدرته لاحقًا، إذ أوضحت أن بنك فلسطين أغلق ما يقارب 2000 حساب لمواطنين ومحامين، بينهم نحو 700 محامٍ في غزة، بدعوى تحديث البيانات أو "عدم الاستخدام العادل". 

كما شدّد البيان على أن هذه الممارسات تفتقر إلى الأساس القانوني وتشكِّل اعتداءً مباشرًا على حقوق المودعين، مؤكدًا أن النقابة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام حرمان أعضائها من أموالهم.

وقد حاولت مراسلة "آخر قصة" التواصل مع إدارة بنك فلسطين للحصول على ردّ رسمي، لكن البنك رفض التعاون بشكل قطعي.

المشكلة لم تقتصر على المحامين وحدهم. المواطن محمد حرز، وهو أحدّ موظفي السلطة الفلسطينية، يعيل ستة أفراد، وجد حسابه مغلقًا منذ شهر. راتبه البالغ 2600 شيكل كان مصدر دخله الوحيد، ومعظم مشترياته تتم باستخدام التطبيق البنكي. 

يقول حرز: "فجأة توقف الحساب، واضطررت للاستدانة من إخوتي، لكن الوضع صعب على الجميع." فيما أبلغه موظف الاستعلامات في البنك بضرورة تحديث البيانات، لكنه يتساءل: "إلى أين أذهب لتحديث بياناتي؟ لا توجد فروع قريبة، وحتى قدرتي على التنقل محدودة. الوضع المعيشي خانق."

المواطنة سعدية الغفري، البالغة 35 عامًا، وجدت نفسها في مأزق مماثل بعد إغلاق حسابها الذي لم يكن يحتوي إلا على راتبها من جمعية خيرية لكنه كل ما تملك. تقول: "تفاجأت بتوقف الحساب، ونحن نعتمد كليًا على الشراء البنكي، فلم أعد أستطيع شراء طعام أو دواء لوالدتي المريضة." 

حاولت الغفري التواصل مع البنك بلا جدوى، إذ طُلب منها إرسال كتاب خطي عبر واتساب ولم تتلق ردًا. تردف: "الناس غير قادرة على سحب أموالها أو شراء احتياجاتها. تطبيق الحساب البنكي الذي كان وسيلتنا الوحيدة للحياة تم إيقافه."

في مواجهة هذه الحالات، يوضح الناشط الحقوقي سعيد عبد الله أن البنوك لا يجوز لها إغلاق الحسابات إلا بقرار قضائي أو تعميم رسمي من سلطة النقد أو في حال الاشتباه بجرائم مالية وفق قانون مكافحة غسل الأموال رقم 20 لسنة 2015.

ويشير إلى أن قانون المعاملات المصرفية رقم 9 لسنة 2010 ينصّ على أن الحساب البنكي عقد ملزم لا يجوز تقييده بشكل تعسفي. يقول: "إغلاق الحسابات دون مسوغ قانوني يمثّل مخالفة واضحة، ويمنح المتضررين حق مقاضاة البنك وطلب التعويض."

على نحوٍ آخر، تتجاوز الأبعاد الاقتصادية للأزمة حدود قطاع غزة. المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر يوضح أنّ التوجه العالمي نحو الدفع الإلكتروني والشمول المالي يصطدم في الحالة الفلسطينية بقيود إسرائيلية مباشرة، ويقول: "الكثير من القرارات ليست مستقلة، بل تأتي استجابة لضغوط إسرائيلية".

ويضيف أبو قمر أنّ سلطة النقد والبنوك المحلية تعمل تحت سقف النظام المصرفي العالمي والبنك المركزي الإسرائيلي، ما يفسر جزئيًا القيود المفروضة؛ لكنه يرى أيضًا أن غياب الشفافية وتفسير القرارات للمواطنين يعمّق فقدان الثقة بالنظام المالي.

في قطاعٍ يعيش واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية عالميًا، أصبح إغلاق حسابات بنكية خطوة إضافية نحو خنق حياة آلاف الأسر، التي وجدت نفسها فجأة بلا وسيلة للوصول إلى أموالها، وبلا أجوبة واضحة من المؤسسات التي يفترض أن تؤمنها.