مدّخرات الغزيين تُلتهم بين الحرب والاحتيال

مدّخرات الغزيين تُلتهم بين الحرب والاحتيال

يمسك حسن عليان بهاتفه المحمول، يحدّق في إشعار حوالة بنكية أرسلها للتو. على الطرف الآخر، لم يكن سوى محتال انتحل شخصية صديق مقرّب له، مستخدمًا صورة شخصية للصديق عبر تطبيق "واتساب" ورقمًا جديدًا لا يثير الشبهات. الرسالة كانت واضحة: "حوّل لي مبلغ 1700 شيكلا الآن، وسألتقيك بعد قليل أمام بيتك لأعطيك المبلغ نقدًا".

انتظر عليان ساعات طويلة دون أن يتلقى اتصالًا، ثم قصد منزل صديقه ليسأله: أين المال؟ فأجابه الأخير بدهشة: "أي مال؟ أي سيولة نقدية؟". عندها أدرك الكارثة. أخرج هاتفه ليُري صديقه المحادثة التي تحوي صورته واسمه، لكن برقم مختلف. وحين أعاد الاتصال بالرقم، كان قد حُظر من "واتساب" نهائيًا.

يقول عليان: "كنت قد قرأت تحذيرات عن الاحتيال الإلكتروني، وصديق لي تعرّض لفخ مشابه ونجا قبل التحويل. لكنني عندما رأيت صورة صديقي وطريقة حديثه لم أتردد لحظة".

خسر عليان 1700 شيكل (نحو 500 دولار) بعدما حوّل المبلغ عبر تطبيق بنكي لشخص لا يعرفه. لاحقًا اتضح أن المستلم في غزة لم يكن له أي علاقة بالاحتيال، بل مجرد شخص عادي يتعامل بالعملات الرقمية (USDT)، استُخدم اسمه كواجهة دون أن يدرك أنه جزء من عملية نصب. أما المحتال الحقيقي كان قد خدع عليان عبر حساب وهمي على "فيسبوك"، لتضيع الأموال في النهاية ويبقى الفاعل مجهول الهوية.

مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة للشهر الثالث والعشرين على التوالي، تضاعفت عمليات الاحتيال الإلكتروني في غزة وسط غياب حقيقي لدور الشرطة، وتعطل المحاكم عن العمل، وعدم فاعلية النظام المصرفي. 

في هذا الفراغ الأمني والمالي، تنوعت أساليب النصب: انتحال شخصيات عبر "واتساب"، إنشاء صفحات وهمية تحمل شعارات البنوك الفلسطينية، إرسال روابط مشبوهة لتفعيل الحسابات البنكية، أو وعود بحلّ مشاكل تقنية.

سميحة فتحي، فوقعت في فخ أكثر تعقيدًا. عبر صفحة مزيفة تحمل اسم PalPay، تواصل معها شخص ادّعى أنه موظف الشركة، طالبًا كلمة السر لحل مشكلة في حسابه. في دقائق، استُنزف رصيدها البالغ  7000 شيكل، وحُوّل إلى بنك في الأردن. 

تقول فتحي: "المثير أن الرقم كان فلسطينيًا ويتبع لشركة اتصالات محلية؛ لكنني اكتشفت لاحقًا أنها شبكة منظمة للاحتيال".

تردف السيدة بحزن: "كنت أظن أنني أملك المال لإطعام أسرتي وتوفير مستلزماتها ودفع إيجار الشقة السكنية التي تأويني وأطفالي". لم يكن وقع الخسارة ماليًا فقط، فقد اضطرت بعدها إلى تأجيل شراء الدواء لابنها المريض بالربو، وهو ما جعلها تشعر كما تقول بـ "عجز الأم أمام احتياجات أطفالها".

محمد نصار عاش تجربة مشابهة. حوّل 3500 دولار عبر USDT، على أن يستردها بالشيكل في حسابه البنكي ببنك فلسطين. لكن بمجرد إتمام التحويل، اختفى المحتال وأغلق حسابه الوهمي على "فيسبوك". 

يقول نصار بحسرة: "كان المبلغ مساعدة وصلتني من أحد المعارف في الأردن، لأوزعها على عائلتي وأقاربي. كم شخص كان سيستفيد من هذا المبلغ؟ لكن كل شيء تبخّر".

هذه ليست شهادات فردية، بل جزء من ظاهرة متسعة رغم التحذيرات المتكررة من البنوك الفلسطينية بعدم مشاركة البيانات مع أي صفحة غير رسمية. 

ووفقًا لمدير جمعية البنوك في فلسطين بشار ياسين، فإنّ النزاع والانهيار الاقتصادي أسهما في تصاعد الاحتيال الإلكتروني. 

وأشار ياسين إلى أن الجمعية تتلقى شكاوى الضحايا وتحيلها إلى وحدة الجرائم الإلكترونية، إضافة إلى إطلاق حملات توعية للحدّ من هذه العمليات.

لكن فعليًا، لا يتجاوز دور الجمعية الجانب التوعوي، فيما لا تُقدم البنوك سوى نصائح عامة وتنبيه بعدم التعامل مع الصفحات المزيفة، حتى بيانات "بنك فلسطين" الأخيرة اكتفت بالتحذير من روابط وهمية وانتحال صفة موظفين.

اتصل عليان ببنك فلسطين للتبليغ عن حالته، فقيل له أن يتوجه إلى قسم الجرائم الإلكترونية. لكن في غزة، لا يعرف أحد كيف أو أين يتقدّم بشكوى في ظلّ انهيار الأجهزة الشرطية واختفائها لخطر استهدافها من قبل الاحتلال.

لم تنشر أيّة جهة رسمية رقمًا إجماليًا لحجم الأموال المسروقة عبر الاحتيال الإلكتروني في غزة منذ اندلاع الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. لكن المؤشرات المتاحة تُظهر اتساع الظاهرة، فقد تلّقت وحدة المباحث الإلكترونية أكثر من 300 شكوى نصب واحتيال إلكتروني خلال الوضع الراهن، وفق تصريحات صحفية سابقة. 

كما وثّقت تقارير إعلامية وقوع مئات الضحايا بطرق تشمل صفحات مزيفة تحمل شعارات البنوك وروابط مشبوهة. بعض الحالات الفردية وصلت مبالغها إلى عشرات آلاف الشواقل والدولارات، من بينها سرقات بقيمة نحو 30 ألف شيكل بالإضافة إلى 700 دولار وأخرى بنحو 21 ألف دولار إلى جانب 49,700 شيكل. 

في المقابل، أطلقت جمعية البنوك في فلسطين منذ تموز/يوليو 2024 حملات توعية متواصلة لمكافحة الاحتيال الإلكتروني، بينما شددت سلطة النقد الفلسطينية على مخاطر التعامل مع العملات المشفّرة ومزوّدي خدماتها غير المرخصين.

حاولت "آخر قصة" التواصل مع وحدة الجرائم الإلكترونية في وزارة الداخلية للتعرّف على دورها في ضبط ظاهرة الاحتيال الإلكتروني، إلا أن الوحدة اعتذرت عن إجراء المقابلة، مبرّرة ذلك بالوضع الميداني العام في غزة، مع تأكيدها استمرار عملهم رغم قلة الإمكانات.

وبحسب تصريحات صحفية سابقة لضابط في المباحث الإلكترونية، فإنّ الوحدة تلقت أكثر من 300 شكوى نصب واحتيال إلكتروني خلال الأحداث الجارية، لكنها لم تتمكن من حلها جميعًا بسبب استهداف مقرات الشرطة وصعوبة الإجراءات القانونية، إضافة إلى ضعف تعاون البنوك.

القوانين الفلسطينية لا تخلو من مواد رادعة دون إجراءات فعلية على أرض الواقع. المحامي حماد ظهير أوضح أن القانون الأساسي لعام 2003 كفل حماية الحقوق والحريات، وأن قانون الجرائم الإلكترونية رقم 10 لسنة 2018 نصّ على عقوبات تصلّ إلى خمس سنوات سجن لمنتحلي الهوية أو مرتكبي الاحتيال عبر الإنترنت. كما أن قانون المعاملات الإلكترونية رقم 6 لسنة 2013 في غزة تطرق للعقوبات ذاتها، لكنه يحتاج تحديثًا وتفعيلًا.

لكن في ظلّ غياب مؤسسات تطبيق القانون، تبقى النصوص بلا أثر. يضيف ظهير: "المسؤولية القانونية تقع أيضًا على العميل في حال زود الجاني بمعلوماته المصرفية طوعًا، لكن البنوك وسلطة النقد ملزمتان بزيادة الرقابة الإلكترونية وإيجاد حلول مصرفية بديلة".

المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر يرى أن تفشي الاحتيال يعود إلى غياب النظام المصرفي والاعتماد على السوق السوداء، ويقول: "توقف سلطة النقد والبنوك عن العمل في غزة كارثة اقتصادية. المواطنون أصبحوا يلجؤون للسوق الرمادية، مثل التكييش أو التحويل الإلكتروني عبر وسطاء، ما يجعلهم عرضة للخداع".

ويدعو أبو قمر إلى استئناف عمل البنوك، رفع مستوى الحماية التقنية، وتنظيم حملات توعية مالية تشرح للناس كيفية حماية حساباتهم.

في غزة، لا يخسر المواطن بيته وأرضه فقط، بل ماله أيضًا. فالمحتالون، من الداخل والخارج، يجدون في الفوضى بيئة خصبة للانقضاض على الضحايا. وما لم تستعد المؤسسات المالية والأمنية قدرتها على العمل، سيظل كل غزيّ مشروع ضحية جديدة، يدفع ثمن الحرب مرتين: مرة بالقصف، وأخرى بخداع محتال يترصده خلف شاشة هاتفه.