على طول شارع الرشيد الساحلي، يمتدّ مشهد يختصر مأساة مدينة بأكملها: طوابير طويلة من الشاحنات والسيارات المتهالكة، مكدّسة بالفرشات والخزانات والبطانيات، فيما يتدلّى الأطفال من نوافذ المركبات ويجلس رجال فوق الأمتعة المحمّلة على السقوف.
البحر على يمين الطريق، هادئ وصامت، بينما في الخلفية أعمدة دخان كثيف ترتفع من مناطق القصف داخل المدينة. المشهد يذكّر بمسيرات نزوح جماعية في الحروب القديمة، لكنه اليوم واقع يعيشه الغزيون وهم يفتشون عن ملاذٍ آمن، ولو كان مؤقتًا بعدما ودّعوا مدينتهم بالثكلى بأوجاع حربٍ إسرائيلية مستمرة منذ نحو عامين.
الطريق الضيقة غير المستوية لا تُستخدم هنا لعبور المركبات كما في الأوضاع الطبيعية؛ إنها شريان حياة مهدّد. بعض العائلات أرسلت أحد أفرادها مع المتاع في "تكتك" بينما سارت بقيتها على الأقدام بمحاذاة الشاطئ مسافة لا تقلّ عن عشرين كيلو مترًا تحت وقدة الشمس أو ظلام الليل الدامس، وآخرون اقتسموا أجرة مركبة بالكادّ تتسع لأسرة واحدة.
يضطر النازحون إلى تقاسم الأجرة أو النزوح مشيًا لعدم امتلاكهم أجرة النقل التي قفزت إلى أسعارٍ خيالية، وسط ظروفٍ معيشية محطمة للغاية يعيشها السكان، فجاءت ما بين 600 إلى 4500 شيكلاً أي ما يعادل بالدولار بين200 دولار و1500 دولار بحسب موقع المحافظة وحجم وسيلة النقل، وقد ينتظر النازحون يومًا أو يومين بعد الحجز قبل أن يظهر السائق، إذا ظهر أصلًا.
نهاد السوسي (55 عامًا)، نازحة للمرة التي لا تُحصى في خيمة صغيرة بشارع الجلاء وسط مدينة غزة، تتنقل بين بيوت الأقارب وأماكن الإيواء وهي تحمل وجعًا يتجاوز قدرتها على الاحتمال. فقَدَت أبناءها الثلاثة في الحرب، وقبل ذلك زوجها، وتتحمل مسؤولية ثلاثة أحفاد من ابنها الشهيد.
تقول بصوت متقطع: "استشهدوا أولادي في الحرب، وبيتي قُصف، لم يعد لي أحد يعينني ويحمل معي، وليس لدي قدرة على النزوح نحو جنوب وادي غزة. أعيش على إحسان الناس مما يصلنا من صدقات من الجيران وأهل الخير".
في سبتمبر الحالي أصدر الجيش الإسرائيلي أول تحذير شامل لسكان مدينة غزة بكل أحيائها ومناطقها وشوارعها ومربعاتها السكنية، طالبهم فيه بإخلاء منازلهم وخيامهم على الفور، قائلاً: "غادروا فورًا مدينة غزة وتوجّهوا جنوبًا إلى منطقة المواصي التي اعتُبرت منطقة إنسانية".
مدينة غزة، التي تضم نحو مليون نسمة، لم يكن كثير من سكانها يملكون حتى ثمن الطريق. تقول السوسي: "تكاليف النزوح صعبة جدًا وما معنا شيكل واحد لندفعها".
على بُعد بضع كيلومترات، تجد سعدية صبح (33 عامًا) نفسها في مأساةٍ مشابهة. وهي أرملة فقدت زوجها في الأيام الأولى للأحداث الجارية، وأمامها خمسة أطفال لا معيل لهم، تقطن في خيمة غرب مدينة غزة.
تقول بيأسٍ بالغ: "أنا نازحة من بيت لاهيا شمال قطاع غزة، لا مُعيل لي ولا مصدر دخل. لا أقدر على النزوح إلى محافظات الجنوب، فإن كتب الله لنا الحياة عشنا، وإن كتب لنا الموت متنا. أطفالي لا يعرفون للنوم سبيلًا من شدة القصف، وأنا عاجزة عن دفع تكاليف المواصلات الباهظة".
شهادات السكان العاجزين على دفع تكلفة النزوح تكشف هشاشة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في غزة اليوم، إذ وصلت نسبة الفقر إلى 100% وتجاوزت معدلات البطالة 80%، وارتفعت الأسعار بنسبةٍ تفوق 200% خلال عام واحد، بينما القدرة الشرائية تكادّ تتلاشى تمامًا. وسط هذه المعادلة المستحيلة، يصبح النزوح ترف لا يملكه الكثيرون.
سامي سليم، أب لثلاثة أطفال، فيقيم في خيمة قرب منطقة الجوازات وسط غزة، حيث لا تتوقف إنذارات الإخلاء عن التحذير من قصف جديد. يقول: "أخرج إلى الشارع كلما ورد إنذار بقصف أحد الأبراج القريبة. لا قدرة لي على النزوح، ولا أستطيع دفع أجرة النقل. أحيانًا نمضي أيامًا بلا طعام، فكيف يمكننا تدبير تكاليف النزوح؟".
سامي، كغيره من آلاف الشباب العاطلين عن العمل، يواجه استحالة مضاعفة: تأمين لقمة العيش، والنجاة من حرب لا تمنح مهلة.
أما ليلى أبو داوود (40 عامًا)، التي اختبرت النزوح أكثر من مرة. تقول: "نزحتُ إلى جنوب القطاع في الأيام الأولى للحرب، وعدتُ إلى منزلي خلال فترة وقف إطلاق النار المؤقت في يناير الماضي، وها أنا اليوم أتهيأ للنزوح مرة أخرى. حياتنا خلال العامين الأخيرين لم تكن سوى سلسلة من النزوح المتكرر والركض بلا توقف، كأننا لا نلحق سوى بالدمار."
حتى الأجانب لم يملك بعضهم حق مغادرة القطاع وعاشوا هذه المعاناة بكل حذافيرها. محمد العزم، مواطن مصري جاء مع زوجته لزيارة عائلتها في قطاع غزة، قبل اندلاع النزاع، فوجد نفسه محتجَزًا بعد إغلاق المعابر. يقول: "لم أكن أتصور أن أعيش مثل هذا الخوف والرعب. الأسعار خيالية، لم أرَ مثلها في أي دولة. النزوح مكلف جدًا، ربما نحتاج إلى عامين من العمل في مصر لتغطية التكلفة التي أنفقناها خلال فترة النزوح فقط".
تصف الأخصائية النفسية فداء مهنا هذا النزوح القسري بأنه "أكثر من مجرد مغادرة مكان، فالنزوح بحدّ ذاته مؤذٍ نفسيًا ومرهق. النازح لا يفقد فقط مسكنه، بل جزءًا من هويته وانتمائه وشبكته الاجتماعية".
وتشير إلى أنّ النازحين يواجهون سلسلة من الصدمات النفسية تتمثل في اضطرابات النوم والاكتئاب ونوبات الهلع واضطراب ما بعد الصدمة. كما توضح أنّ الرحلة لا تنتهي بالوصول إلى مكان آمن، فالتشرد بداية لمرحلة جديدة مليئة بالتحديات النفسية والاجتماعية، حيث يصبح التكيف والاندماج والحصول على دعم نفسي كافٍ عوامل حاسمة لصحة النازحين.
على نحوٍ آخر، يحاول محمد حبيب، سائق شاحنة نازح من حي الشجاعية شرق مدينة غزة إلى الصبرة جنوب المدينة، أن يؤمّن قوت أسرته النازحة منذ ستة أشهر. يخرج قبل بزوغ الشمس ليقضي يومًا كاملًا بين طوابير السير وأعطال الطرق.
يقول: "أغادر المنزل في الخامسة والنصف فجرًا، ولا أعود قبل الحادية عشرة والنصف ليلًا بعد إنجاز نقلتين. الطريق مزدحمة بشكل غير طبيعي، مكتظة بالسيارات المتعطلة والمتوقفة."
لكن التحدي الأكبر هو الوقود، يردف: "السولار باهظ الثمن جدًا، فقد بلغ سعر اللتر مئة شيكل، والخزان يحتاج من سبعة إلى ثماني لترات. أي أن الرحلة من غزة إلى الوسطى قد تكلف بين ألف وألف ومئتي شيكل" ورغم هذا الجهد المضني، إلا أنّ المبلغ لا يغطي المردود أو حتى المصاريف الأساسية.
يعيش محمد مع زوجته وأطفاله السبعة في ظروف نزوح قاسية، بلا دخل ثابت ولا أفق للتحسن. يتابع بمرارة: "الناس مرهقون، والسيارات لا تجد طريقًا تسلكه، وكل شيء متوقف."
في مشهد آخر من البؤس، يعمل حسين الحتو (33 عامًا) في تصنيع السولار من البلاستيك؛ إلا أنّه لم يختر هذه المهنة طوعًا، بل لجأ إليها بعد أن فقد عمله مع اندلاع الحرب. يقول: "منذ عامين وأنا أعمل في تصنيع السولار. اضطررت لذلك بعد أن فقدت عملي. الحياة غالية، وكل يوم أصعب من سابقه."
يقضي الحتو مع خمسة عمال أكثر من 12 ساعة يوميًا في مواقع بدائية محفوفة بالخطر. يضيف: "سعر كيلو البلاستيك ارتفع إلى خمسة عشر شيكلًا بعدما كان ثلاثة فقط. أما لتر البنزين أو السولار المصنع فيصل إلى خمسين شيكلًا. نقضي ساعات طويلة في العمل، والخطر يحيط بنا طوال الوقت: من الحرائق، والاختناق، وحتى الانفجارات".
مقارنةً بذلك، بلغ سعر اللتر الإسرائيلي 100 شيكل للسولار و120 شيكل للبنزين، ما جعل نزوح آلاف العائلات حلمًا بعيد المنال.
اليوم، يقف سكان غزة أمام مفارقة قاسية: الاحتلال يطلب منهم "غادروا فورًا"، فيما لا يملكون حتى ما يكفي لشراء رغيف خبز أو دفع أجرة الطريق. الصور القادمة من شارع الرشيد تُظهر مدينة بكاملها تتحرك ببطء نحو المجهول، عربات متوقفة على مد البصر، عائلات مرهقة تنتظر أي وسيلة تنقلها، وأطفال يلوّحون بأيديهم من فوق المتاع.
المدينة التي كانت نابضة بمليون إنسان تحولت إلى طابور نزوح طويل على شاطئ البحر. النزوح لم يعد سبيلًا للنجاة، بل عبئًا آخر يضاف إلى حربٍ لا تترك لهم سوى خيار الانتظار… وانتظار المعجزة.
النازحون من مدينة غزة